هذا ما يخلفه العبث الإنساني الذي يدفعه الجشع والكبر، وتتغير القيم لتعود بنا إلى ظلمات لم نقرأها حتى في كتب التاريخ.
كانت معرفة الحقيقة هي الهم الأول الذي شغل الإنسان منذ بداية الخلق، واقتصرت وسائل المعرفة على النقل المباشر للأحداث بلغات اختلفت توازياً مع الاختلافات في الثقافات وتماشياً مع التطورات التي شهدتها المجتمعات عبر العصور.
المعرفة فقدت قيمتها وسط الدم والجوع، والإعلام فقد قيمته بعد مواسم التعرية التي أظهرت أبشع صور الحقيقة، والحقيقة أصبحت كابوساً يريد الناس تجنبه ولم يعد محل بحث أو رغبة.
وقد نكون الأوفر حظاً بما نعيشه من سرعة تلقي الخبر، والإمكانيات المتاحة للتفاعل معه في كل الأوقات والأماكن عالمياً.
لكن السؤال هنا: ما هي المصالح التي تحققت لنا أو لغيرنا بما لدينا من إمكانيات؟ وهل فعلاً وصلنا إلى حل المأزق الذي شغل الإنسانية لقرون؟
توفر وسائل المعرفة بمختلف أنواعها وأساليبها، سواء عبر تلقيها مكتوبة، أو مسموعة أو عبر صور أو فيديوهات مباشرة أثناء الأحداث، أو بعدها.
وتوفر هذه الوسائل بين تقنيات المعرفة، والمواد المتوفرة لتحقيقها كلها من المفترض أن الإنسان قضى سنوات في البحث العلمي، والنظريات ليتوصل إلى ما ننعم به اليوم من معارف.
وخدم التطور المعرفي الإنسانية في مختلف المجالات بين التربية والتعليم، والقطاعات العلمية والطبية، وتسهيل التنقل بين أنحاء العالم في أوقات قياسية، وتقنيات سهلت حياتنا اليومية من البيت إلى الشارع وأماكن العمل والترفيه.
قطاع واحد بقي محل تساؤل، هو الإعلام والتساؤلات المطروحة وفي كل المنصات هو، هل أن قطاع الإعلامي وتطوره يمكن اعتباره إيجابياً مثل المعرفة تماماً؟
دور الإعلام في إيصال المعرفة والتوصل إلى الحقيقة، والتطور الإعلامي الذي شهدته السنوات الأخيرة، خاصة الإعلام الجديد أو الإعلام الاجتماعي، نشر نوعاً جديداً من الوعي المخيف.
هو وعي فكري مرعب فعلا لأنه ومع زخم المعلومات وتضاربها، واستغلال هذه المنصات خاصة سياسياً، وتوظيفها الأيديولوجي لغسل العقول وتحويل شباب عصرنا إلى إرهابيين ناقمين على مجتمعاتهم بسبب الصور التي تلقوها وتابعوها واقتنعوا بها.
ورغم أن التأثير الإعلامي لم يبد مخيفاً أو سلبياً، على الأقل مع نهاية الألفية الماضية، وفي بداية القرن الحالي إلا أن الخطر تجلى مع انطلاق ما سمي بـ"الثورات العربية".
الخطر الأول كان جلياً وظاهراً عبر الدور الذي لعبته منصات التواصل الاجتماعي بداية من تونس ثم مصر وسوريا وليبيا، والتعبئة لحشد الجماهير وإخراجهم لشوارع متوهمين أن الحقيقة هناك والحرية والكرامة، وهم لم يعلموا حينها أن آلات شيطانية بأموال قذرة تحركهم جميعاً وتعمل على تشريدهم وبقائهم في هذه الشوارع لتوظيفهم سياسياً وأيديولوجيا لوقت غير محدود.
لم يعرفوا وقتها أن من يديرهم مجموعات منظمة كانت متربصة وانتظرت أن تنضج عقولهم كما أرادوها أن تكون.
أرادوهم أن يدمروا أوطانهم بأيديهم، أن يشردوا من بيوتهم، ليتوهوا في عالم رافض لهم.
أصبح شباب منطقتنا العربية الإسلامية خاصة في دول "الثورات" مرفوضاً في دول الغرب كما لم يرفض من قبل، وخير دليل على ذلك عودة اليمين بقوة إلى أوروبا، والمواقف من الهجرة والمهاجرين في أمريكا وأستراليا وبقية دول العالم.
والآن وبعدما وصلت إليه الأوضاع وإن قيمناها أقل ما يقال إنها كارثية بين سوريا وليبيا خاصة، والصعوبات في بقية الدول، تعرت الحقيقة لكن في وقت متأخر جداً.
وهذه الحقيقة التي كشفت الدور القذر الذي لعبته الأموال القطرية في سبيل الإطاحة بأنظمة لتدعم إيديولوجيات الإخونجية، التي أكد لي بشكل مباشر أحد قياديها وطلب ألا أنشر تصريحه وقتها أنهم كانوا حين نزل الناس إلى الشوارع في حالة استنفار قصوى وحشدوا قواتهم ليلاً ونهاراً ليضمنوا ألا يذهب دوي أصوات الجماهير التي خرجت بحثاً عن الحرية والعدالة والخبز وقتها لغيرهم.
عادت الجماهير أدراجها وخرج شياطين الخفاء إلى الساحة لانتزاع الحكم، والخبز وحرية الناس الذين لم يكن لديهم بديلا عن هؤلاء وتوسموا فيهم خيراً لأن الله عدل والدين حق، ولم يعلموا أن هؤلاء يتاجرون باسم الله والدين من أجل الحكم والمال، وباعوا شعوبهم وأوطانهم ومازالوا يقبضون الثمن، وأحوال الناس تتدهور وثقتهم في كل ما حولهم زالت.
المعرفة فقدت قيمتها وسط الدم والجوع، والإعلام فقد قيمته بعد مواسم التعرية التي أظهرت أبشع صور الحقيقة، والحقيقة أصبحت كابوساً يريد الناس تجنبه ولم يعد محل بحث أو رغبة.
وهذا ما يخلفه العبث الإنساني الذي يدفعه الجشع والكبر، وتتغير القيم لتعود بنا إلى ظلمات لم نقرأها حتى في كتب التاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة