بئس المصيرِ هو المصير الذي تُخطئ فيه المعارضاتُ موقعَها الوطني، في غمرة مغامراتها وراء أوهام العنف المسلح.
أصاب الحركات الاجتماعية العربية أذى شديدٌ من حرْفها عن خطها السياسي المدني والسلمي، الذي طبع معظمَها في البدايات، والذهاب بها إلى خياراتٍ من العنف والعنف المسلّح تنوء بحملها (تلك الحركات)، ولا يُسعف بها ميزان القوى الداخلي. لم يحصل ذلك في تجارب «الربيع العربي» كافة، فقد ظلت «الثورات» الثلاث: التونسية والمصرية واليمنية، محافِظة على سلميتها إلى أن أفلحت اثنتان منها في إسقاط النظام ورئيسه، والثالثة في إسقاط الرئيس من دون نظامه.. ولكن هذا الاستثناء الحميد أفسدهُ نموذجٌ ثان من «الثورات» ركِبتْ قواهُ فكرةُ التغيير السريع بالقوة المسلحة، فأمعن في سلوك دروبه المتعرجة وأنفاقه الكالحة ليأخذ الحراك الاجتماعي، برمّته، إلى ما أخذهُ إليه من نهايات ومآلات درامية، وليأخذ معه المجتمع والدولة إلى حتفٍ أو ما يشبه الحتف! ولقد كان خيار «تسليح الانتفاضة» أو عسكرتها، أو الانتقال بها من الحالة الجماهيرية إلى الحالة الميلشياوية، في سوريا وليبيا، المثال الصارخ لذلك الانحراف الذي أصاب الحركات الاجتماعية العربية.
أضعفَ «تسليحُ الحركات الاجتماعية» هذه الحركات، وأفقرها من موردها الجماهيري، وصادرها مصادرةً كلية. والحق أنّ وصف هذا المنعطف الخطير بعبارات من قبيل «تسليح الثورة» أو تسليح الانتفاضة» ...إلخ، ينطوي على خبثٍ كبير، لأن مبناهُ على القول إنّ هذا الفعل المسلّح ينتمي إلى عملية التغيير، التي أطلقتها تلك الحركات الاحتجاجية- الإصلاحية في مُنطلقاتها- وأنه (التسليح) إنما أتى يزوّد الحركةَ إياها بموردٍ للقوة من شأنه تعزيز قدرتها على التأثير، وعلى تحصيل أهدافها، وتسريع وتيرة بلوغ تحقيق تلك الأهداف.
ولقد وجد كثيرون - منهم يساريون عاطلون عن العمل السياسي منذ عقود - ضالّتهم في واقعة التسليح، فتراءى لهم ذلك تجذيراً للانتفاضة، أو انتقالاً بها إلى خيارات راديكالية، متبرعين بأفواههم لأكل ثوم مَن ابتغوا من التسليح غايات أخرى ، ومتناسين - لقلّة خبرتهم في العمل السياسي-أن الانتقال ذاك مَقْتَلٌ لانتفاضةٍ سيخْلُد فيها جمهورُها من الناس إلى بيوتهم ما إن يلعلع الرصاص في الفضاء، وستنوب فيها الميليشيات و«زُعْران» الحارات عن طبقات الشعب، ولعمري ما أدري من أي نظريةٍ من نظريات الثورة استقوا ذلك أو استلهموه،
على مثال خبث عبارة «تسليح الانتفاضة»، نشأ المبرر الذي سوَّغ به المسوِّغون لجوءهم إلى العنف المسلّح؛ وهو الردّ على عنف النظام وأجهزته، وتوفير وسائل الدفاع الذاتي. وهو مبرر عارٍ عن الوجاهة، بل مُغرض؛ وبيانُ ذلك أن استخدام السلاح، من قِبَل «المتظاهرين»، إنما أيلولتُه إلى رفع الحرج عن الخيار الأمني لدى النظام، وإطلاق يده في خصومه المسلحين. وما من نظامٍ في العالم يسمح لجماعةٍ بحمْل السلاح واستخدامه، حتى ولو كان ديمقراطياً.
ومَن يجهل هذه الحقيقة، ليراقب كيف تصرّف النظام الأمريكي بعد حوادث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وكيف يتصرف النظام الفرنسي كلما هزّته ضغوط أمنية؛ منذ الجنرال ديغول وانتفاضة الشباب في مايو/أيار 1968 إلى فرانسوا هولاند وعمليات شارلي- إيبدو وباريس في العام 2015. وإلى ذلك فإن ميزان القوى لا يسمح لمعارضة داخلية بأن تحسم معركتها، بالسلاح، ضدّ النظام حتى ولو تلقت دعمًا عالميًا أو من دول الإقليم. والنتيجة أن الذين لم يتوقفوا عن تبرير خيار التسليح، بزعم ضرورات الدفاع الذاتي، آلُوا- فيما بعد- إلى مجرّد ملحقات سياسية، لا حيثية تمثيلية لها (ما خلا بإرادة الأجنبي)، للميليشيات المسلحة المصنَّفة دولياً بأنها إرهابية. والأنكى من ذلك، والمَدْعاة إلى الفضيحة،أنهم ارتضوا تقديم السُّخْرة السياسية لمَن سخّروهم، فانصرفوا إلى تلميع صورة جماعات مسلحة متطرفة (كانت هي نفسها مَن أنهاهم سياسيًا وأحالهم إلى تقاعُدٍ سياسي مبكّر)، فقدّموها للرأي العام بوصفها معتدلة، وجالسوها في اجتماعات التعميد السياسي وفي أذهانهم أنها إنما ستعمل معهم على إقامة «الدولة المدنية الديمقراطية».
قد يقول قائل إن «الثورة المسلحة» ممكنة في الأوضاع العربية، وآي ذلك أنها نجحت، في ليبيا، في إسقاط نظام العقيد معمّر القذافي، الذي لم يسعه ميزان القوى في إخماد «ثورة 17 فبراير».
هذه رواية مزعومة عما حصل في ليبيا، والحقّ أن النظام لم يسقط ببنادق «الثوار»، الذين كانت قواهم تتراجع، حثيثاً، شرق خليج سرت أمام «الكتائب الأمنية»، وصولاً إلى مشارف بنغازي. ولولا ضربات طائرات دول «حلف شمال الأطلسي» ما دُمِّرت قواتُ النظام، ولا دخلت الجماعات المسلحة إلى طرابلس، ولا قتلتِ العقيد تلك القِتْلة الوحشية الشنيعة التي تدلّ على أخلاق من فعلوها. وليس يشرِّف معارضةً أن تُنْجِز «ثورة» بدبابات الاحتلال أو طائراته. نصدُر، في نقدنا لخيارات العنف المسلّح، عن عقيدة سياسية تقول إن العنف الوحيد المشروع لدى شعبٍ أو حركة سياسية - إلى جانب العنف الشرعي الذي تحتكره الدولة احتكاراً حصريًا- هو العنف الوطني في مواجهة العدوان الخارجي والاحتلال الأجنبي. أما استخدام السلاح في الداخل باسم «العنف الثوري» أو «الجهاد» فليس من الثورة والجهاد في شيء؛ إذ هو السبيل الأقصر إلى الفتنة الداخلية والحرب الأهلية. يزيد طينَ هذا الخيار الانتحاري بِلَّةً أن يقع تطبيقُه في مجتمع «انقسامي»، يعاني هشاشةً شديدة في بناه نتيجة افتقاره الشديد إلى الاندماج الاجتماعي. إنّ مجتمعاً كهذا- مثل المجتمع العربي- يتفسَّخ منذ اللحظة الأولى للمجابهات العسكرية، فَتتحلّل روابطُه المواطنية الجامعة، لتنبعث منه الأطر والعلاقات العصبوية التقليدية التي خمدت- نسبياً- في عهد «الدولة الوطنية» الحديثة، لتتحول إلى وقود جديد للاقتتال والإفناء المتبادل، ماذا حصل في لبنان الحرب الأهلية، والعراق المحتل المحكوم بالمذهبية والاحتصاص الطائفي؛ وما الذي يحصل- اليوم- في سوريا وليبيا، وينتِج كلّ هذا الدمار العظيم، والموت المعمَّم، غير هذا؟
من النافل القول إنّ آثار نهج هذا المسلك الانتحاري، من قِبل أيّ معارضة سياسية، آثار فادحة: الموت الجماعي، التهجير القسري للسكان (من قِبل المعارضة والنظام معاً)، وخراب الاقتصاد والبنى التحتية، وتمزيق الروابط الاجتماعية، واستباحة الوطن أمام التدخلات الأجنبية...إلخ. لكن مفاعيلها السيئة على المعارضة نفسِها شديدةُ الوطأة، ولا تنحصر في الأضرار البشرية والمادية التي تلحق بها، بل تتعدى ذلك إلى فقدانها قرارَها السياسي، وصيرورتها أداةً في يد آخرين من اللاعبين الدوليين والإقليميين في أزمة بلدها. هكذا تجد المعارضات نفسها- وهي تركَب هذا المَرْكب الانتحاري- وقد انتقلت من قوّة تحت تصرُّف الشعب ومطالبه (أو هكذا تقدّم نفسَها)، إلى قوّة تحت تصرف السياسات الخارجية. وبئس المصيرِ هو المصير الذي تُخطئ فيه المعارضاتُ موقعَها الوطني، في غمرة مغامراتها وراء أوهام العنف المسلح.
ينشر المقال بالتزامن مع صحيفة "الخليج" الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة