الحضور الأميركي في المنطقة كان ينطوي على فرص بقدر ما ينطوي على أعباء ومخاوف
يُفترض ألا يكون الحوار الذي أدلى به الرئيس باراك أوباما لمجلة «أتلانتيك» في العاشر من هذا الشهر مفاجئاً بالمعنى الحرفي للكلمة، فالسياسة الأميركية الحالية في الشرق الأوسط تجسِّد ما قاله. ودول الخليج العربي تتعامل واقعياً مع مخرجات هذه السياسة منذ أعوام، وليس من المبالغة القول إنها تتحمل أعباء ما اقترفته الولايات المتحدة منذ العام الأول من الألفية الثالثة، وتحاول إصلاح ما ترتب على سلوكها من أضرار.
أدار الرئيس الأميركي حواره حول قضيتين أساسيتين حاول أن يحمِّل المملكة العربية السعودية، ودول الخليج ضمناً، أوزارهما، وهما: الإرهاب، والطائفية. وربما يلزم التذكير بأن هذين الشرَّين اللذين ينفثان سمومهما من حولنا إنما وضعت الولايات المتحدة بذورهما بما سمته «الحرب ضد الإرهاب»، وهي الحرب التي أطلقت موجة كراهية عالمية غير مسبوقة، نجم عنها «تفريخ» جماعات إرهابية جديدة لم تكن معروفة من قبل، لأن هذه الحرب المزعومة على الإرهاب استخدمت أساليب غير شريفة لتحقيق أهداف أبعدتها من كونها حرباً ضد الإرهاب، إلى كونها حرباً على الإسلام وشعوبه ودوله، قادتها ونفذتها قوى يدفعها شكل آخر من التطرف. وحتى حين ظهرت «داعش»، كانت هناك ألف علامة استفهام، ولا تزال، على دور الولايات المتحدة في ظهورها وامتدادها. ولا نريد أن ننساق وراء حديث المؤامرة، لكن بذور «داعش» زُرعت في العراق حين كانت القوة العظمى بكل سطوتها هي من يمسك بمقاليد الأمر في العراق. أفلا يحق لنا أن نشك ونتساءل؟
أما الطائفية فهي الأخرى نبتٌ جديد في المنطقة، وقد أطلقها من عقالها حرب العراق في العام 2003، وما اتخذته الولايات المتحدة منذ اليوم الأول لدخولها بغداد من إجراءات هدمت الدولة ورسّخت الطائفية والمحاصصة، ونفخت في نيران المذهبية والعرقية لتترك العراق ساحة للقتل الذي لا تنتهي فصوله. وبعد عقد من الزمان انسحبت الولايات المتحدة تاركةً العراق للنفوذ الإيراني من دون شعور بالندم.
كانت دول الخليج مجبرة على التعامل مع غطرسة القوة الأميركية في المنطقة، واحتواء أضرارها إلى أقصى حد. وقدّم القادة الخليجيون والعرب كثيراً من النصائح للولايات المتحدة حتى لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، ولكنهم صادفوا أذناً أميركية صمّاء في مواضيع كثيرة، فمن ذلك إعادة نوري المالكي رجل إيران في العراق وتثبيته في رئاسة الوزراء على حساب أياد علاوي المعتدل والمقبول عربياً وخليجياً، فضلاً عن تهديدات معلنة ومبطنة تبشر بالفوضى وتحاول أن تفرض على المنطقة نماذج سياسية أثبتت فشلها. ومن هنا كان على دول الخليج أن تدير أمورها في هذا الواقع المضطرب عبر توازنات صعبة، وقد نجحت في ذلك من دون أدنى شك، مُستخدمةً كل الأدوات المتاحة.
لا أوهام لدينا تجاه العلاقة مع الولايات المتحدة أو غيرها من الدول، وليس مجدياً استخدام لغة العتب أو التذكير بما قدَّمنا لها، فما فعلته دول الخليج العربية طوال العقود السابقة لم يكن عربون ود أو عطايا مجانية، بل كان سلوكاً سياسياً يضع في اعتباره أولاً وقبل كل شيء مصالح شعوب الخليج، وضمان الأمن والاستقرار لدول الخليج في منطقة تستعر بالمخاوف والأطماع، وإقامة ترتيبات مع الولايات المتحدة ومع غيرها من القوى، منها ما هو سياسي ومنها ما هو عسكري، لحماية الإنجازات التنموية الراسخة والرفاه والازدهار. وقد حققت دول الخليج أهدافها، واستطاعت أن تكون جزيرة تقدم وتطور وأمان في محيط من الفشل والفوضى والانهيارات المتوالية.
الحضور الأميركي في المنطقة كان ينطوي على فرص بقدر ما ينطوي على أعباء ومخاوف. وحين تقرر الولايات المتحدة اليوم تغيير تموضعها الاستراتيجي فإن دول الخليج قد تفقد فرصاً، لكن فرصاً سانحة غيرها ستظهر، في الوقت الذي ستطرح فيه دول الخليج عنها أعباء هذه العلاقة، وهي ليست بالقليلة.
مخطئ من ينزعج كثيراً من الاستقالة الأميركية من المنطقة لمصلحة إيران، لأنه ليس قادراً على قراءة التطورات المهمة التي حدثت في السنتين الأخيرتين. لقد كان هناك من يتخيل أن المظلة الأميركية هي ما يضمن لدول الخليج الحماية والأمن، لتكشف أحداث الأعوام الأخيرة أن دول الخليج بقواها الذاتية قادرة على ضمان أمنها، وعلى إيقاف تمدد الأعداء حتى خارج حدودها. وقد أكدت القوات المسلحة في دول الخليج أن خياراتها واسعة، وأنها قادرة على خوض أصعب أنواع المعارك في البر والبحر والجو، وإقامة التحالفات التي يقوم كل طرف فيها بدوره في تناسق وتكامل للجهود.
حين حدثت الأزمة المالية العالمية في العام 2008، راهن كثيرون على أن دولاً خليجية ستنهار أو ستتراجع، لكن هذه الدول أثبتت قدرتها على التعافي أسرع من أي منطقة أخرى في العالم، وعادت أقوى مما كانت. وهذا هو عينه ما كشفه التحول الاستراتيجي للولايات المتحدة عن تحالفاتها التقليدية، إذ برزت الدول الخليجية كقوة عسكرية وسياسية واقتصادية قادرة على تغيير المعادلات القائمة، وتحقيق مصالحها في مواجهة القوى الإقليمية والدولية التي تحاول تهديد هذه المصالح أو الضغط عليها.
إن ما حدث سيحفز كل عوامل تنمية القوة الذاتية، وتعميق التحالفات وتنسيق المواقف سياسياً وعسكرياً بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في شكل أساس، وبينها وبين الدول العربية التي تشاركها رؤيتها لما تتعرض له المنطقة من تهديد واستهداف. وربما يكون ذلك خطوة نحو إزالة بعض التناقضات أو التباينات التي كانت تظهر إلى السطح بين دول الخليج، استشعاراً لما تفرضه الظروف من اجتماع الكلمة ووحدة الصف. ويجد هذا التضافر سنداً قوياً في الروابط التي تجمع شعوب دول مجلس التعاون، ورغبتها التي عبرت عنها دائماً في مزيد من التعاون والتنسيق.
ستكتشف الولايات المتحدة أنها خسرت كثيراً من أوراقها وكثيراً من مكانتها في المنطقة، وأنها لن تكون قادرة على تحقيق مصالحها كما كانت تفعل من قبل. وإذا كانت الشعوب العربية قد عبّرت كثيراً عن موقف سلبي من الولايات المتحدة الأميركية وسياستها تجاه المنطقة، فإن الشقة ستكون أوسع في الفترة المقبلة، لأن انضمام إيران إلى قائمة حلفاء أميركا سيعني للمواطن العربي أن الولايات المتحدة إنما تكره العرب وتعقد الصلات مع أعدائهم أياً كانوا. ولن يكون بعيداً من ذهن المواطن العربي أن الأصابع الأميركية كانت تدعم الفوضى في الدول العربية منذ أكثر من عقد، وتُبشر بها وتهيئ لها أسبابها، وأنها تحدّت الإرادة الشعبية بدعمها «الإخوان المسلمين» الذين لفظتهم الشعوب العربية وأسقطتهم. وبذلك فإن الأميركيين يدعمون أعداء الخارج وأعداء الداخل أيضاً، ليبقى العالم العربي يعاني الإنهاك والضعف.
أخيراً، يزعم أوباما في حواره أن «أصدقاءنا التقليديين في الخليج، لا يملكون القدرة لوحدهم على إطفاء اللهيب أو الفوز في شكل حاسم، وهذا يعني أن علينا العودة واستخدام قوتنا العسكرية لحسم الموضوع»، وهي مغالطة أساسها التفكير بالتمني على الأغلب، لكنه لو نظر إلى اليمن لاكتشف أن دول الخليج تتقدم باطراد وثبات نحو تحقيق هدفها، فها هي تعز قد عادت إلى الشرعية الأسبوع الماضي، كما ستعود صنعاء قريباً. كما أننا لم نطلب من الرئيس أوباما العودة واستخدام قوته العسكرية كما يدَّعي، لأن أبناءنا في اليمن يخوضون معركة الشرف، وهم ليسوا في حاجة إلى أحد لتحقيق الانتصار الذي نثق بأنه قريب.
سيحضر أوباما قمة مجلس التعاون في الرياض غداً، لكن زعماء الخليج وقادته لا يُعوِّلون على وجوده في شيء. وسيكون من الصعب أن يتصور أن بلاده ستظل قادرة على الحصول على ما كان متاحاً لها من مساندة خليجية في ملفات مهمة في المنطقة، لأنه لا توجد هدايا مجانية هنا. وكل ما يمكن أن يناله أوباما هو كرم الضيافة، وجولة في الصحراء قد تقدِّم له دروساً عن الصلابة التي تخلقها في من اعتادوا العيش بين جنباتها.
هذا المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة "الحياة" اللندنية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة