فى الصفحة الأولي، يصف مشاعره وهو فى مطار القاهرة، بعد أن يئس من العثور على عمل مناسب له فى مصر
هذا كتاب جدير بالقراءة، ومثير للإعجاب، صدر منذ أربع سنوات عن دار الآداب فى بيروت، ولكنى للأسف لم أسمع به إلا منذ أيام قليلة، رغم أنى كنت أعتبر نفسى متابعا لا بأس به لحركة النقد الأدبى فى مصر.
الكتاب من نوع غير مألوف، من أكثر من ناحية، إنه يوصف باليوميات، على ظهر الغلاف، وهو كذلك إلى حد كبير، وإن كان المؤلف يسمح لنفسه بحرية التنقل من زمن لآخر.
ولكن الكتاب يوصف أيضا على صدر الغلاف بأنه «رواية»، وهو فعلا يمكن أن يقرأ كرواية، رغم أنه يحتوى على الأسماء الحقيقية لشخصيات كثيرة معروفة، قابلها المؤلف أو قرأ لها، كما أنه كثيرا ما يخرج عن سياق القصة التى يحكيها لتقديم تفسير أو تحليل لظاهرة اجتماعية، وهو ما لا يفعله عادة كاتب الرواية.
على أى حال، فالكتاب، سواء وصفته باليوميات، أو الرواية، لا يفقد أبدا تشويقه للقارئ، من أول صفحة حتى نهاية الكتاب، فالمؤلف «حمزة قناوى» بلا شك حكاء ماهر، يجيد اختيار ما يحكيه وما يصرف النظر عنه، ولا يطيل حيث يجب الإيجاز، كما أنه يوحى منذ الصفحات الأولى بأنه كاتب صادق، لا يقول إلا ما يشعر به حقيقة، ومن ثم تمنحه ثقتك وتتابع حكايته حتى النهاية.
فى الصفحة الأولي، يصف مشاعره وهو فى مطار القاهرة، على وشك تركها للعمل فى مدينة خليجية، بعد أن يئس من العثور على عمل مناسب له فى مصر، فيقول إنه طرح على نفسه سؤالا واحدا: «لماذا تقسو مصر على أبنائها رغم (ذوبانهم) فى ترابها، ومحبتهم لها إلى حد «العشق»، وجدت سؤاله هذا محزنا ولكنه أيضا حقيقي، فتعلق المصريين ببلدهم مشهور، وعليه دلائل كثيرة، ولكن قسوة الحياة فى مصر حقيقية أيضا، على اختلاف الطبقات الاجتماعية، مع صعوبة العثور على تفسير مقنع لهذه القسوة.
يبدأ المؤلف فى تذكر بعض أيام صباه، وهو لا يزال تلميذا فى المدرسة الابتدائية، فيعطينا مثالا صارخا لقسوة الحياة فى مصر، وإن كان أيضا شديد الطرافة، يذكر كيف تم اختياره «كطفل مثالي»، من جانب مؤسسة اسمها «الرعاية المتكاملة»، التى كانت ترأسها سيدة مصر الأولى آنذاك، سوزان مبارك، لما أبداه من مثابرة وذكاء فى تردده على إحدى المكتبات العامة التى تحمل اسمها، على امتداد الجمهورية كلها.
طلب منه الحضور لمقابلتها وتسلم جائزته فى زيارتها للمكتبة، التى تقع فى الحى الذى يسكنه (مكتبة عرب المحمدى)، كتب أنه تذكر «العربات المصفحة والمدرعات التى اصطفت أمام المكتبة قبل الموعد بيومين، والرجال الغليظين الذين وقفوا يفتشون المارة فى الحديقة أمام المكتبة، ثم كيف سألته أمينة المكتبة، وهى تبتسم، قبل وصول السيدة الأولى، عما ينوى قوله للضيفة الكبيرة، فلما ذكر لها أنه سيحدثها عن بيت أسرته وأنهم يريدون الانتقال إلى بيت أوسع، قالت له إن هذا الكلام لا يليق، وأن عليه أن يفكر فى شيء آخر، فلما ذكر لها أن جارهم قال له إنهم هدموا كشك الجرائد الخاص به لأن موكبها سيمر من أمامه، وأنه يريد كشكا جديدا، قالت له أيضا إنه لا يمكن أن يقول هذا الكلام، واقترحت عليه أن يتكلم عما استفاده من المكتبة، ثم وصف رجالا آخرين أخذوا يلقنونه ما يقوله أمام السيدة الأولى، وأنه لاحظ أن أحدهم يحمل مسدسا تحت ملابسه، فلما جاء وقت مقابلته لها وسألته: «ما اسمك يا حبيبى؟»، وسط الكاميرات والأضواء، ووجوه كثيرة مبتسمة ابتسامة نمطية واحدة، أجابها، ثم أضاف مجيبا عن سؤالها عن رأيه فى مشروع المكتبة، فقال «المكتبة جميلة، المشروع ناجح و(مثمر)»، فابتسمت مسرورة بهذه الكلمة الفصيحة، ثم ساد الصمت، قبل أن يضيف أن هذا هو ما قاله له «الرجل أبو مسدس!».
مثل هذا هو ما يعدك به الكتاب منذ صفحاته الأولى، ولا يخيب طنك حتى تنتهى صفحاته الأربعمائة، إن الجزء الأكبر من الكتاب يحكى قصة بحثه عن وظيفة بعد تخرجه فى كلية الآداب، دون جدوى، ثم عثوره على عمل غريب ومرهق، مقابل راتب هزيل هو ثلاثمائة جنيه فى الشهر.
هذه الوظيفة المرهقة هى وظيفة «باحث مساعد» لكاتب مشهور، يصر على الوجود فى كل مكان يمكن أن يحصل منه على المزيد من الشهرة، فيكلف هذا الشاب المسكين (مؤلف الكتاب) بأن يقوم له بمختلف الأعمال، العقلية والمادية، مستغلا حاجته الشديدة الى المال.
الكتاب يرسم شخصية هذا الكاتب المشهور بوضوح تام، مما يتفق تماما مع ما أعرفه أنا عن هذا الكاتب، ولكنه أيضا يصف بنجاح كبير ما يراه فى أثناء طوافه بشوارع القاهرة، ومقابلة هذا المسئول أو ذاك تنفيذا للأوامر، يصف مثلا تعرضه المستمر للإيقاف فى الشارع من أمناء الشرطة الذين يسألونه عما اذا كان معه بطاقة (ويعلق على ذلك بقوله، إن المواطن فى بلدى مجرم حتى تثبت براءته)، فإذا خطر له أن يقضى ساعة فى التفرج على المسلة التاريخية فى حى المطرية (حتى يحين موعده مع الأستاذ)، تستغرب الموظفة المسئولة عن قطع التذاكر أن يأتى أى شخص لمشاهدة المسلة، ثم تأخذ منه قيمة التذكرة دون أن تعطيه تذكرة، ولكنها تسمح له بالدخول وتنبه عليه أن يقول لزميلها فى الداخل إنه قام بالواجب ودفع الثمن، وان لم يكن معه ما يثبت ذلك، وفى أثناء ذلك تقع يده على إحدى الصحف التى تنشر المانشيتات الآتية: «الرئيس يفتتح مشروعات إنمائية فى الجيزة ـ وزير الداخلية الجديد: قانون الطوارئ أنقذ مصر من الإرهاب ـ مهرجان القراءة للجميع: القراءة أهم شىء فى الحياة»، ولكن فى الصفحة المقابلة: «الطفل المصرى يسجل أعلى نسبة أنيميا بين أقرانه على مستوى المنطقة والدول المجاورة»، وبجانب ذلك إعلان يقول «تملك فى مارينا فيلات تبدأ من خمسة ملايين جنيه فقط»، وفى صفحة الحوادث: «انتحار مزارع فى سوهاج بعدما عجز عن توفير احتياجات أسرته وأطفاله».
سوف يجد القارئ فى الكتاب بعض الصفحات التى تحتوى على أرقام وإحصاءات، وإن كان كثير منها مفيدا، فإنها لا تناسب عادة رواية أو يوميات، ولكنها (سواء حرص القارئ على قراءتها، أو قفز فوقها مؤجلا قراءتها، كما فعلت أنا، أحيانا)، لم تؤثر على حكمى على الرواية، إذ وجدت أنها لم تفسدها، وكان معيارى فى ذلك ما إذا كان من السهل حذف هذه الصفحات أو التجاوز عنها دون أن تؤثر على مسار القصة وتماسكها، لقد وجدت فى الكتاب دائما ما يحتفظ بتشوقى الى قراءة المزيد منه، ومن ثم خرجت من قراءته واثقا بأننا أمام كاتب موهوب، وواعد بلا شك بالمزيد من الإنتاج الأدبى الراقي، ولحسن الحظ أنه، بالإضافة إلى ذلك، مشغول بقضايا اجتماعية مهمة. وفي مقدمهم روسيا، في منطقة الشرق الأوسط وحول العالم.
المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة