لم تكن ولن تكون الديمقراطية ثمرة ناضجة تسقط علينا كأفراد من أعلى شجرتها
أتعامل مع عملية البناء الديمقراطى فى مصر على أنه الطريق الأصعب والأطول فى تاريخ الأمم والشعوب. كما أنه الطريق المليء بالصراعات المتكافئة أحيانا وغير المتكافئة أحيانا كثيرة أخرى التى تتجدد صورها وادواتها بناء على تطور المراحل والقفزات الاقتصادية والاجتماعية التى تصيغها المجتمعات.
كما أنه الطريق الممزوج بالعرق والدم والنضال. بالإضافة إلى أنه الطريق الذى يتحقق من عملية نسج اجتماعى طويلة تكتسب فيها الشعوب مهارات فى التصدى لكل ما هو غير هادف للديمقراطية.
عملية طويلة تضيف فيها الشعوب تجارب جديدة تضاف لتجاربها الجماعية المكتسبة وتساعدها على التقدم للأمام فى خطوات بطيئة أحيانا وسريعة خاطفة فى أحيانا أخري. الخلاصة أن الطريق للبناء الديمقراطى ليس محاطا بالزهور. فما بالنا إذا تضمن هذا الطريق فى مسعاه الطويل قيمتى الحداثة والمدنية وعملية تصدى للإرهاب.
وكما نعرف جميعا أن الطريق إلى الاستقلال الوطنى اسهل فى تحقيقه من الطريق إلى الديمقراطية بالرغم من أنه يمر على النضال والدم والعرق هو الآخر، ذلك لتداخل الطريق الى الديمقراطية مع المصالح الطبقية والفئوية فى المجتمع. فالديمقراطية بمفهوم الأستاذ الجامعى تختلف بعض الشيء عن مفهوم الفلاح او العامل الصناعى كما للمستثمر الكبير. فى حين ان الطريق الاستقلال يعنى هدفا واحدا وهو خروج المستعمر.
وفى تقديرى الخاص أن ثورتى 25 يناير و30 يونيو تمثلان خطوتين أو قفزتين سريعتين فى طريق الصراع النضالى لبناء الديمقراطية منذ أن اقتلع الوالى محمد على نبتها قبل نموها. حدث ذلك عندما حل الوالى ما كانت تملكه مصر من طوائف حرفية تجمع الصناع إراديا لتنتج وتتحرك وتبنى وطنا وتتطور بشعب كما فعل الصناع الأقدمون فى بلدان الديمقراطية الناضجة الحالية والتى ينظر إليها من ملايين من مواطنى الدول النامية، كمصر، كنموذج للديمقراطية. الذى فعله محمد علي، بناه على معرفته الحقيقية للمضمون الحقيقى لقوة وتأثير هذه الخلايا الإنتاجية والاجتماعية الحية التى استطاعت فى ذلك الزمان البعيد، نسبيا، تنظيم ثم قيادة ثورتين على المستعمر الفرنسى ثم الضغط على الباب العالى للمجيء بمحمد على إلى سدة الحكم.
هذا الرجل الذى يمر القاهريون على تمثاله فى ميدان التحرير جسد فى فكر محمد على نقطة الخطورة على طموحاته العسكرية وعلى مشروعه الاقتصادي، فبدأ بالتخلص من نفوذه وركائزه بأن حل الطوائف وركز العملية الانتاجية فى قبضة الدولة ثم فى مرحلة تالية تخلص منه، وبات عمر مكرم تاريخا.
ومع حل الطوائف ماتت تلك الخلايا الحية التى كانت، حتى ذلك التاريخ، مسرحا شعبيا للعمل والإنتاج والحركة المجتمعية الشعبية والتى جاءت بهذا الوالى إلى سدة الحكم. هذه الطوائف التى كان من الممكن، إذا ما تركت لنموها الطبيعى ودون تدخلات من الداخل أو من الخارج، أن تحدث التحول التاريخى العام المطلوب لمصر وللمصريين.
ومصر، ليست حالة خاصة وإنما هى حالة عامة راقبناها جميعا من دراستنا للتاريخ منذ أن تطورت أوروبا إلى مرحلة نموها الصناعى وبالتالى تطورها الاجتماعى على يد صناعها.
عند سقوط «حائط » وما تلاه من طى صفحة مهمة من تاريخ التجارب الإنسانية وهى الصفحة التى وفرت لمواطنيها التعليم والسكن والعمل والحماية الاجتماعية العامة وضمنت لهم كل هذه المطالب، تساءل البعض لماذا يخرج المواطنون فى موسكو على كل هذه الميزات ليطالبوا بإسقاطها؟ ماذا كان مطلبهم الأساسي؟ قيل أنهم طالبوا بالحريات العامة والخاصة يعنى بالديمقراطية. وكان التساؤل الثاني، ألا يملكون تنظيما يمثل تحالف العمال والفلاحين وبجانبه يملكون حزبا شيوعيا تمارس فيه االديمقراطية بدءا من الخلايا القاعدية فى كل وحدة صعودا إلى المكتب السياسي، ثم ألا يملكون نقابات عمالية وبجانبها اتحادات مهنية وتعاونيات فلاحية؟ كما نظمت لهم الدولة اتحادالعموم نساء وآخرا لينظم الشبيبة. لقد امتلكوا كل الهياكل السياسية والاجتماعية بجانب امتلاكهم المطالب الحياتية الاساسية؟ فماذا يريدون اذا؟
كان تساؤلى مع غيرى من ملايين البشر من مواطنى الدول النامية وغيرها، بسبب التخوف من نتائج هذا الانهيار الذى اصاب التجربة الاشتراكية الأولي، وهو انفراد القطب الرأسمالى بالعالم لتغليب مصالحه الخاصة ثم بسبب فقدان هذه الشعوب النامية الفقيرة بالسند الاقتصادى الذى ساعدنا على التعرف على فنون وفروع انتاج، لم نكن نعرفها، تساعدنا على النمو والخروج من دائرة التخلف كذلك لمساندته القوية لحركات التحرر الوطنى حتى إنجاز أهدافها.
عند سقوط حائط برلين كنت كملايين غيرى أتساءل عن السبب الحقيقى الذى لهذا السقوط المدوي،ثم توقفت عن التساؤل عند قراءتى البيان الصادر من المجلس التنفيذى لاتحاد نقابات عمال عموم الاتحاد السوفيتى ومحاولة الوصول لمضمونه، الرافض للنظام القديم الذى استمر منذ عام 1917 والمساند للجديد الذى هو ليس الاشتراكية. فهمته، أى مضمون البيان، على أن التنظيم الديمقراطى للطبقة العاملة يرفض نظامها السياسي، اى نظام الطبقة العاملة ذاتها، وهو النظام الذى يدير شئونها الوطنية والاجتماعية.
رفضوا الهياكل والمضامين السلطوية المنظمة للديمقراطية.
وكان ذلك طبيعيا، كما قال لى احد الاصدقاء الصحفيين الروس لاحقا.
فما كان يقبله المواطن السوفيتى الأمى والمعدم والمتعطل فى العشرينيات من القرن العشرين لم يعد يقبله بعد أن تعلم واصبحت اساسيات الحياة مكفولة له.بعد أن تعلم المواطن السوفيتى وبعد أن استمتع بالطيبات الاجتماعية أدخل الديمقراطية ضمن أولوياته الاساسية. لم يعد مقتنعا بوعاء الحريات الذى تقدمه المركزية الديمقراطية أو االديمقراطية المركزية.
سعى لصياغة وعاء الحريات الذى يلائم، على الأقل، مستوى تعليمه وطموحه إلى الديمقراطية. هذه الحالة السوفيتية القديمة تعدلت الآن بعد أن تعرفت الشعوب على منابع جديدة للمعلومات والاتصالات التى تقودها إلى عوالم وتجارب جديدة غير عوالمها وتجاربها الذاتية.
وبعودة إلي، حائط برلين، فبالرغم من مرور 26 عاما على التحول الكبير الذى حدث فى بلاد السوفييت فإن البلاد لا تزال تبنى وتؤسس فى طريقها إلى الديمقراطية، ولا يزال أمامها الكثير.
المضمون الحقيقى الذى أسعي، دائما، للإشارة إليه هو أن البناء الديمقراطى يحتاج إلى عمليتين، واحدة هى فهم دقيق للواقع الاجتماعى والاقتصادى فى البلد المعني، بجانب العملية المهمة الثانية التى هى النضال الواعى المنظم للطريق إلى هذه الديمقراطية.
فى لقاء مع وفد أوروبى فى إحدى منظمات المجتمع المدنى الشهيرة أشار الوفد إلى حالة قضية الديمقراطية فى مصر بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وهل تحسنت الأوضاع فى هذا البلد أم تراجعت؟ وكانت إجابتى بسيطة للغاية. وهل تحققت الديمقراطية فى صباح اليوم التالى للثورة الفرنسية؟ الثورة الأوروبية الأم والأعظم.
ولا يعنى ذلك أن علينا انتظار قرنين أو ثلاثةٍ حتى نحقق ما حققه الأوروبيون من التقدم فى مجال الحريات العامة والخاصة؟ فقط. علينا أن نتعلم من التجربة الأوروبية ومن جميع التجارب الأخرى وخاصة تلك الدول القريبة من تجاربنا، الهند وجنوب إفريقيا.
ثم نشق طريقنا إليها أولا بحرية تنظيم أصحاب المصالح الواحدة سياسيا أو اجتماعيا إراديا ودون تدخل الدولة فى أنشطتها.
أى تحقيق حرية التنظيم والحركة والرأى للجميع ومحاولة التعلم على استخدام الحقوق الثلاثة جماعيا لتغيير الجانب المتخلف من مجتمعنا وهو كبير ويحتاج لجهد ضخم. خاصة فى العملية الجارية الآن وهى الصراع بين كل ما هو قديم أمام كل ما هو جديد.
إن ما أحزن الجميع فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة هو لجوء جميع القوى السياسية (ونؤكد على كافة القوي) فى اختيار مرشحيها فى الريف على أساس انتمائهم القبلى دون أن نلجأ إلى إعلاء قيمة المواطنة فى بناء الديمقراطية. وقد شارك فى هذا الاختيار مثقفون جامعيون يعلمون أن الديمقراطية كقيمة اجتماعية لا يمكن أن تبنى إلا على قيمة المواطنة كقيمة لازمة وأصيلة للبناء الديمقراطي.
حدث ذلك بعد أن مرت مصر بهاتين القفزتين الديمقراطيتين فى 25 يناير و30 يونيو. يعنى ذلك أننا ما زلنا نحتاج إلى إعادة النظر فى طريقنا الحالى لنتعلم منه وسيلتنا الناجحة إلى ذلك الطريق الطويل الموصل إلى حياتنا التى نريدها.
لم تكن ولن تكون الديمقراطية ثمرة ناضجة تسقط علينا كأفراد من أعلى شجرتها، وإنما ستظل كما كانت دائما قيمة تنتزعها الشعوب المنظمة من حكامها ومن تيارات سياسية متخلفة تخشى من حرية الشعوب.
هذا المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة