الأرجح أن الدب الروسي لن يتخلى عن دمشق سياسياً واستخباراتياً، وهذا أمر واضح بالنظر إلى أحدث تصريح لبوتين، إلى جانب أن الأجندة الروسية
تعددت تأويلات انسحاب القوات الروسية من سوريا، بين من يقول إن إعلان الرئيس بوتين سحب قواته جاء بعد أن حققت أهدافها، ومن يقول إن الانسحاب يأتي للضغط على نظام الأسد لتقديم تنازلات في المفاوضات. وثمة من يرى أن روسيا تواجه استحقاقات في منطقة القرم تطلبت سحب طائراتها. وإجمالا مثلما كان التدخل الروسي العسكري في سوريا مفاجئاً، جاء الانسحاب مفاجئاً كذلك، بينما أكد بوتين أن روسا قادرة على العودة إلى سوريا خلال ساعات.
وعملياً أسهم التدخل الروسي في دعم نظام الأسد وإضعاف المعارضة، خلافاً للأهداف الروسية المعلنة بشأن محاربة الإرهاب. بالنظر إلى أن خريطة أهداف الطيران الروسي شملت مناطق خاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية أكثر من مناطق سيطرة الجماعات الإرهابية.
وجاء انسحاب المقاتلات الروسية أيضاً بالتزامن مع بدء المفاوضات بين المعارضة السورية ونظام الأسد في جنيف. وعندما نقول نظام الأسد فالواقع أن الأسد لم يعد يسيطر عملياً إلا على دمشق وبعض الأرياف السورية، بينما تحولت سوريا إلى جحيم ملتهب، شرد مئات الآلاف من السوريين إلى خارجها.
والأرجح أن الدب الروسي لن يتخلى عن دمشق سياسياً واستخباراتياً، وهذا أمر واضح بالنظر إلى أحدث تصريح لبوتين، إلى جانب أن الأجندة الروسية في الأزمة السورية تقوم على معارضة ومناكفة أي رأي غربي فيما يخص مصير الأسد. وعندما تقوم سياسة الدول الكبرى على منهج المناكفة والتحدي الأجوف، يتضح أن السياسة الدولية لا تزال تمر بمرحلة الحرب الباردة بين الأقطاب الكبرى، خاصة أن بوتين يراهن بشأن استمرار شعبيته ومحافظته على صورة البطل القومي داخل روسيا على انتهاج مواقف من هذا النوع الذي يتصف بالعناد. ويبدو أن روسيا البوتينية سوف تستمر في هذا النهج، أي أن الأزمة السورية ستبقى ورقة للتلاعب بأيدي القوى الدولية، حتى وإن أفضى ذلك إلى إطالة أمد المأساة السورية وتشريد المزيد من السوريين في بقاع الأرض.
ومثل بوتين، يتحرك بشار الأسد، ولا يعدم بين فترة وأخرى من يمد نظامه الآيل للسقوط بدعامات مؤقتة وانتصارات هشة غير ثابتة على الأرض، كما هو الحال في ريف حلب وجوارها، بدليل الكر والفر المتواصلين بين قوات الأسد وفصائل المعارضة.
وبدورها تواصل إيران، سواء عبر حليفها «حزب الله» أو مباشرة عبر خبرائها ومقاتليها التابعين للحرس الثوري، استثمار المأساة السورية على طريقتها وطبقاً لأسلوبها الذي يسير على عجلات طائفية ومذهبية، وقد يخلو الجو أكثر لها في سوريا لكي تواصل مهمة الشحن الطائفي الذي ستكون له في حال استمراره تداعيات اجتماعية خطيرة على سوريا ذات التنوع المذهبي والديني، ومن هنا تتضح بشاعة الأداة الإيرانية عندما تدس أنفها في أي بلد. ولا نجاة للسوريين مستقبلا إلا إذا تخلصوا من مخزون التعبئة الطائفية الذي عملت إيران على تعميقها، بعد أن وجدت في المحنة السورية فرصة سانحة لتحويل كفاح السوريين من أجل استعادة استقرار بلدهم إلى محطة للتأسيس لصراعات أعمق في المستقبل، والفوضى هي ما تريد إيران نشره في كل مكان.
أما التدخل الروسي فيختلف عن التدخل الإيراني من حيث المضمون، باعتبار الأزمة السورية مجرد ورقة عابرة بيد روسيا تستخدمها في سياستها الخارجية لإثبات حضور دولي موازٍ للأوروبيين والأميركيين لا أكثر. فروسيا نسقت بشكل كامل مع إسرائيل أثناء شروعها في ذلك التدخل. ولا أحد يعلم كيف يبتهج الإيرانيون وحلفاؤهم بالتدخل الروسي لدى انطلاقه، رغم إعلان روسيا في حينه التنسيق المباشر مع إسرائيل.
وتبقى الثمرة الوحيدة للتدخل الروسي هي دفع نظام دمشق إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، وربما يكون هذا هو المعطى الوحيد الذي خرجت به روسيا من سوريا، لإقناع بقية دول العالم بأن صوتها مسموع لدى الأسد، رغم أنها لا تسمعه إلا ما يحب أن يصغي إليه، ويبهجه منذ بداية الأزمة السورية الطاحنة.
هذا المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة "الاتحاد" الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة