إن تخلّي الاحتلال عن "مناطق 67"، وهو أكثر الأهداف الفلسطينية القابلة للتحقيق، مقارنةً بتحقيق عودة اللاجئين
الانتفاضة الفلسطينية المستمرة للشهر السادس على التوالي، وكل الهبّات الجماهيرية التي وقعت في السنوات الأخيرة، هي ليست رداً ميدانياً فقط على استباحات الاحتلال الشاملة لكل ما هو فلسطيني، بل هي، أيضاً، تعبير عن أن ثمة وعياً متزايداً، في أوساط الشعب الفلسطيني، ونخبه الفكرية والسياسية والحزبية والمجتمعية، وجيله الشبابي خصوصاً، بات يرى أن «مسار أوسلو» لإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني، فشل فشلاً ذريعاً، وأن القضية الفلسطينية، تنتقل، عملياً، من مرحلة انتهت في الواقع إلى مرحلة جديدة قيد التشكل، لكن معالمها لم تتبلور كلياً بعد. ذلك أنها ككل مرحلة جديدة، لا تلد دفعة واحدة، ولا تتشكل بشكل آلي، بل تمر في مرحلة انتقالية، هي صيرورة تتسم بالارتباك والتشوش والالتباس، بفعل ما يتخللها من صراع بين منظومة المرحلة القائمة ومنظومة المرحلة الجديدة. وهذا ما يضع الفصائل والأحزاب السياسية والنخب الفكرية والمجتمعية والأكاديمية الفلسطينية كافة أمام مسؤولية المساهمة في بلورة الصيغة، وللدقة الاستراتيجية، السياسية والفكرية والنضالية للمرحلة الجديدة، سواء لناحية إدارة الصراع مع العدو، أو لناحية إدارة الخلافات الداخلية، آخذين بالاعتبار ثبوت أن الصراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الصهيونية، وتجسيدها "إسرائيل"، هو صراع وجودي طويل الأمد. فحتى تخلي الاحتلال عن "مناطق 67"، وهو أكثر الأهداف الفلسطينية القابلة للتحقيق، مقارنة بتحقيق عودة اللاجئين، وبانتزاع مواطنة متساوية "لفلسطينيي 48"، ما زال بعيد المنال في ظل تسارع الاستيطان في الضفة، وتعاظم تهويد قلبها القدس.
وآخذين في الاعتبار، أيضاً، أن اتفاق أوسلو، 1993، الذي شق مساراً "جديداً" لتحصيل دولة فلسطينية على "حدود 67"، قد شق، أيضاً، الخريطة السياسية الفلسطينية، عمودياً، وفي الوطن والشتات، بين مؤيد، ومناهضٍ، ومتحفظ. وهذا طبيعي، اتصالاً بما أظهره، (مسار أوسلو)، من استعداد عملي للمساومة على حقوق مركبين أساسيين من مركبات المشروع الوطني، هما: فلسطينيو الشتات، وفلسطينيو 48، وبما أظهره من استعداد للتخلي عن المقاومة التي تشكل المركب الأساس من مركبات الهوية الوطنية الفلسطينية، ولم يتخلَّ الشعب الفلسطيني عنها يوماً.
لقد ظهرت المعالم الأولى لمآلات الشرخ الذي أحدثه هذا «مسار أوسلو» في اقتصار المشاركة في انتخابات "المجلس التشريعي"، 1996، على مؤيديه والمتحفظين عليه. لكن قيادة "السلطة الفلسطينية"، مثلما لم تعتبر انتهاء العمر الزمني ل"أوسلو"، في مايو/ أيار 1999، نهاية المطاف لرهانها على تحويل "السلطة" إلى "دولة".
لكن، مثلما، تبدد رهان تحويل "السلطة" إلى "دولة"، تبدد، أيضاً، رهان تحويل مشاركة الفصائل المناهضة ل"مسار أوسلو" في انتخابات "التشريعي" "الثانية" إلى تماثلٍ مع اشتراطاته. ففي حين حاولت «حماس» التي فازت بثلثي عضوية "التشريعي"، وشكلت الحكومة العاشرة ل"السلطة"، التملص من التزامات "أوسلو"، رفضت الجبهتان "الشعبية" و"الديمقراطية" المشاركة في حكومة "حماس"، تعبيراً عن رفضهما، ومعهما حركة "الجهاد"، التماثل مع هذه الالتزامات. أما مخرج إحالة الوفاء بها، (الالتزامات)، لرئاسة "السلطة"، فلم يقوَ لا على فك الحصار المالي الذي فرضته حكومات الاحتلال على «السلطة»، ولا على كسر شروط الاحتلال السياسية التي تبنتها "الرباعية الدولية" للاعتراف بحكومات "السلطة"، والتعامل معها، وتمويلها. وهو ما أدى إلى اشتداد تنازع حركتيْ "فتح" و"حماس" على "السلطة" وصولاً إلى الاقتتال عليها، وشقها، في العام 2007، إلى "سلطتين" و"جغرافيتين"، (الضفة وقطاع غزة).
بذلك جرى، كما لم يحصل من قبل، تجاوز، وانتهاك، الثوابت الوطنية الفلسطينية، سواء لناحية وحدة الأرض والشعب والأهداف والحقوق والمرجعيات الوطنية، أو لناحية اعتماد الحوار سبيلاً وحيداً لحل التناقضات الداخلية، أو لناحية التشبث بالوحدة الميدانية في حالة الانقسام السياسي. وأكثر، فعلى الرغم من استبشار كثيرين ب"تحقيق المصالحة"، إلا أن الانقسام استمر وتعمق، حيث ذهبت أدراج الرياح كل اتفاقات وتفاهمات ووثائق وحوارات "استعادة الوحدة"، بدءاً ب«وثيقة الأسرى»، 2006، و"اتفاق مكة" 2007، و"وثيقة القاهرة" 2011، و"تفاهم الدوحة" 2012، و"اتفاق الشاطئ" 2013، وصولاً إلى "حوارات الدوحة" 2016. وكل ذلك، على الرغم من ثبوت أن رفض الاحتلال التخلي عن الضفة، وقلبها القدس، قد نسف، من الأساس، وإلى غير رجعة، رهانات فرضية أن وليد المشروع الصهيوني، "إسرائيل" احتلت «مناطق 67»، بهدف المساومة عليها لاحقاً.
إن هذا السلوك الفئوي المدمر هو ما يحول دون اعتراف الحركتين بالحقائق كما هي في الواقع، أي الاعتراف بأن "السلطة" التي تتقاسمانها، هي "سلطة" بلا"سلطة"، وبأن مسعى تحويلها إلى "دولة" مجرد "حرثٍ في البحر"، وبأن "مسار أوسلو" قد انتهى في الواقع، وبأن التحلل من التزاماته، وشق مسار بديل له، يقتضي، ويوجب، أولاً وقبل أي شيء آخر، إعادة بناء، وهيكلة، الخريطة السياسية الفلسطينية، على أساس برنامج سياسي وطني وديمقراطي موحَّد، يعيد الاعتبار للمقاومة، بمعناها الشامل، وتنخرط في سبيل تحقيقه كل تجمعات أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. هذه هي الرسالة السياسية الداخلية الأساسية التي تحملها الانتفاضة المستمرة. فالشعب الفلسطيني تضحوي ووحدوي، ووطنيته راسخة ومتقدة، ويلتف، بلا تردد، حول أية خطوات وحدوية تبعث أملاً، وزادته مرارات الانقسام اقتناعاً على اقتناع، بأن أي فصيل غير قادر، بمفرده، على حماية القضية الفلسطينية والدفاع عنها، فما بالك أن يحقق إنجازات جديدة لصالحها.
المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة "الخليج" الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة