لا يخفي الرئيس الروسي فرحه بوجود أوباما في البيت الأبيض، كأنه هدية حصلت عليها روسيا في أصعب أوقاتها
أتخيل فلاديمير بوتين جالساً في مكتبه بالكرملين يقرأ ترجمة لحديث باراك أوباما إلى مجلة «ذي أتلانتيك».
سوف يصاب بوتين بالذهول والسعادة في الوقت ذاته من هذه المواقف التي يطلقها رئيس أميركي يودّع القيادة، تاركاً وراءه إرثاً من عدم الثقة، كي لا نقول العداء، من جانب الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، يضاف إلى المكاسب التي وفّرتها سياساته للخصوم التقليديين، وفي مقدمهم روسيا، في منطقة الشرق الأوسط وحول العالم.
لا يخفي الرئيس الروسي فرحه بوجود أوباما في البيت الأبيض، كأنه هدية حصلت عليها روسيا في أصعب أوقاتها. حيث لا يجرؤ أوباما على التدخل يتدخل بوتين ويفرض شروطه ثم يقطف الثمار. يدعو الرئيس الأميركي إلى إعادة النظر في السياسات التقليدية للمؤسسة الأميركية، التي كانت تقوم على كسب ثقة الحلفاء، وإثارة الفزع بين الخصوم، فيجدها بوتين فرصة للتدخل حيث يحتاج حلفاء روسيا إلى التدخل، ولإثارة الفزع حيث لموسكو خصوم.
ينتقد أوباما في حديثه التدخلات العسكرية.
يقول الرئيس الأميركي مبرراً سياساته: «إلقاء القنابل لمجرد إثبات أنك قادر على إلقاء القنابل هو أسوأ الأسباب لاستخدام القوة». هذه هي الحجة التي بنى عليها أوباما انكفاءه عن كل ساحات المواجهة حيث كان يفترض أن يقف على رجليه، كما يفعل رئيس دولة عظمى.
هذا الانكفاء هو الذي سمح لبوتين بإخراج روسيا من عقدة الانهيار التي أصابتها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ذلك التفكك الذي وصفه بوتين، الذي كان ابناً مدللاً للعصر السوفياتي ولاستخباراته، بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين».
من هذه القناعة انطلق بوتين يحاول إعادة المجد الروسي الغابر. ما لم يكن ممكناً في زمن جورج بوش أصبح متاحاً في عهد أوباما.
يتدخل بوتين في أوكرانيا ويفرض خريطة جديدة على أجزائها الشرقية في تحدّ للحكومة المركزية في كييف، ثم يقتطع شبه جزيرة القرم، ويضمها إلى روسيا، في ما يشبه إقدام هتلر على ضم النمسا إلى ألمانيا. فلا يحرك أوباما ساكناً.
يتدخل بوتين في سورية لإنقاذ بشار الأسد، الذي سبق أن حدد أوباما مواعيد لرحيله ورسم خطوطاً حمراً لنهاية حكمه، قبل أن ينكفئ مجدداً بحجة أن أميركا ستخسر من تدخلها في سورية أكثر مما ستحققه من مكاسب، كما قال في حديثه إلى جيفري غولدبرغ. لم تشكل المجازر التي ارتكبها بشار الأسد في سورية ومئات آلاف القتلى والجرحى أي حافز يدفع أوباما إلى وقف هذه المجزرة، ولو لأسباب إنسانية بحتة، إذا لم يكن يحسب حساباً للمصالح السياسية.
راهن أوباما على أن تدخل بوتين هو دليل ضعف، مثلما راهن على أن بوتين سيغرق في المستنقع السوري. لم يحصل شيء من هذا.
بل على العكس. ها هو بوتين يعلن الانسحاب الجزئي من سورية ثم يهدد بأنه قادر على العودة عندما يشاء، ويستقبل ضباطه وجنوده العائدين بأوسمة النصر. فيما الذي غرق في المستنقع السوري هو أوباما الذي أصبحت تعهداته المتكررة للمعارضة السورية موضع استهزاء، والتزاماته تجاه حلفائه موضع تشكيك، بعدما كال لهم من الاتهامات والحملات ما لا يسمعونه في المنطقة إلا على لسان إيران ووسائل الإعلام «الممانعة» التي تموّلها.
هكذا، انتهى التدخل الروسي في سورية بفرض معادلة جديدة سياسية وعسكرية في هذا البلد. أصبحت موسكو الآن هي اللاعب الأكبر هناك، في يدها القرار المتعلق ببقاء بشار الأسد في الحكم، وفي يدها القدرة على فرض الثمن الذي تريد مقابل تسهيل خروجه. فيما أوباما يستجدي تفاهماً مع الروس، كما تثبت الزيارة التي طلب من وزير خارجيته جون كيري القيام بها إلى موسكو هذا الأسبوع. أما حلفاء أوباما في المنطقة فلسان حالهم اليوم: إذا كان حلفاؤنا من صنف أوباما، فلسنا بحاجة إلى إعداء.
المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة "الحياة" اللندنية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة