ابتليت المجتمعات الخليجية مؤخراً أكثر من أي وقت سابق بجرائم السلاح الأبيض والعراك العنيف بين الشباب الذي ينتهي بجرائم قتل بشعة
ابتليت المجتمعات الخليجية مؤخراً أكثر من أي وقت سابق بجرائم السلاح الأبيض والعراك العنيف بين الشباب الذي ينتهي بجرائم قتل بشعة وتخريب المرافق العامة أو التهديد العلني ومهاجهة البيوت لأخذ ما يعتقدون أنه حقهم في الانتقام من ضحاياهم لأي سبب كان، والمخيف حقاً هو ليس نوع الجرائم وقساوتها بقدر ما يصرف من مبالغ زهيدة للباحثين المتفرغين في ذلك الحقل إن وجدوا، وللدراسات المعمقة والبحوث العلمية التطبيقية للوصول لأسباب تلك الظاهرة، ودراسة جذور المشكلة ونسبة تفشّيها، وخاصة أن تلك العملية انتقلت إلى العالم الافتراضي والعنف الإلكتروني الذي تتبعه قضايا جسدية، وكون الذين يقودون هذه الهجمات الشرسة وينفذون الجرائم البشعة شبابا دون العشرين أو أكبر بقليل أصبح من الضرورة أن تتولى المؤسسات التعليمية والرياضية والثقافية والاجتماعية والإعلامية دورها في تطوير برامج ناجعة لمواجهة تلك الظاهرة وشبيهاتها في المجتمع.
وبصورة عامة العنف والتطرف بأنواعه المختلقة وصل لمرحلة قد تتحول لأزمة في العقود القادمة ومشكلة اجتماعية خطيرة، تغيب عنها الحلول الناجعة ومراكز التفكير التي بقلتها في الوطن العربي تبدو أن مهامها الرئيسية لا تتعلق بالمجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة بل لدعم توجه قرارات معينه وللبهرجة الإعلامية، وتكاد تنعدم بها الدراسات التي تعني بالاستثمار الإيجابي لفراغ الشباب وتوجيههم وتوعية المرأة والأسرة وخاصة الأطفال وبرمجتهم برمجة صحية إيجابية وحاجة المجتمع الماسة لمثل تلك البرامج التي لا ينظر إلى أهميتها بالصورة المطلوبة مع ضرورة توعية كل ركائز المجتمع.
فقد تحول بعض المراهقين الصغار إلى قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت وهي طاقات مشبعة بمواد العنف المادي والمعنوي والنفسي والروحي من سن مبكرة جداً، وهي بالمناسبة ظاهرة عالمية لا يختص بها مجتمع إنساني دون سواه، كما أنه ليس مستشرياً بين شبابنا فقط، بل هو موجود منذ بدء الخليقة باختلاف المؤثرات والعوامل التي تتراوح في الشدة واللين عطفاً على النضج والتطور في أنماط الشخصية والمعطيات والظروف والإمكانيات والمقدرات المركبة التي تكون تلك المجتمعات.
والمعضلة محل المناقشة هنا لا تنصب على الجرائم الاجتماعية العادية، بل الجرائم السياسية المتمثلة في الإرهاب الفكري والتحزب في منظومات دولية تتعدى حدود القطر الواحد، وتقوم أساساً على رفض الحوار وفرض الرأي الآخر بالقوة، بل إلى حد تهديد وإقصاء أو حتى قتل كل مخالف وغير مطابق أو متماثل مع أسلوب حياتها ومعتقداتها، والخروج بمفاهيم متشعبة في التأثير والتهديد كجهاد الإنترنت ومحاولة تعطيل القانون وتخريب المجتمع السياسي المنظم باتجاه نشر الفوضى واتباع أسلوب الغاب.
وهناك ثمة مصادر رئيسة لتشكيل سلوك الشاب المعاصر، متمثلة في: مرحلة النشأة الأسرية والمحيط الاجتماعي والتربية والثقافة والقيم السائدة ووسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي والإعلام وبصفة خاصة التلفاز (القنوات الفضائية المفتوحة ووسائل الاتصال الحديث)، وهذه المراحل قد يضاف إليها الموروث الجيناتي للإنسان وما يضعه في جسده من غذاء وشراب وميوله وتعلمه الديني والفكر الذي تأثر به، فالعنف خارج صراع البقاء والنوع سلوك مكتسب يتم تعلمه من خلال عملية التفاعل السلوكي في الأسرة، الشارع، المدرسة، مركز العمل، سبل الترفيه.. إلخ، فالناس يتعلمون سلوك العنف بالطريقة ذاتها التي يتعلمون بها أي نمط آخر من أنماط السلوك الاجتماعي، كما أن معظم سلوك الإنسان يتم اكتسابه عن طريق القدوة ومن خلال العادة والتقليد والمحاكاة.
ويتم كذلك اكتساب السلوك العنيف من خلال عملية تعلم الأدوار المرتبطة بالجنس، وبالرغم من أن بعض الآباء ينظرون للعنف على اعتباره سلوكا منبوذا إلا أن آخرين غيرهم يعتبرونه جزءا ضروريا من الحياة ونمطاً سلوكيا يجب أن يتعلمه الأبناء، بخاصة الذكور منهم للدفاع عن النفس وإثبات الوجود ومسألة العزة والكرامة وتأصيل أهمية العنصر المسيطر والأقوى في المجتمع، ويزداد هذا التوجه الأخير في المجتمعات التقليدية ذات القيم المفرضة في إثبات الذات عضلياً، ومن هنا تكمن أهمية التوجيه والتوعية النوعية ضد ثقافة العنف والتطرف والإرهاب بدءاً بالأسرة وتحديداً المرأة- مربية الأجيال ومحور التوعية.
فالأم هي التي تتولى رعاية وليست تربية الوليد في جزء كبير من المجتمع في وقتنا الحاضر، وتعود للعمل بعد 4 أشهر، ويعد الوالدين هما مصدر عملية التنشئة الإجتماعية، إيجاباً أو سلباً، وهذا ما أكدته النظرية الوظيفية لعلم الاجتماع، والثابت في ذلك المجال العلمي أن القيم التربوية التي تبني شخصية الإنسان في طفولته وشبابه المبكر يصبح من الصعوبة تبديلها دون زعزعة توازنه، ومن هنا فإن ما يتم تلقينه للطفل من السلوك العدواني تجاه الآخر، بما فيها من تمجيد للضرب والإساءة اللفظية وجعله بطوليا باسم الحق المشروع عن الدفاع عن النفس بغض النظر إن كانت ردة الفعل مبالغا فيها أم لا، وهل هي الأسلوب الأمثل لمواجهة المشاكل والتحديات، ولكن ما فرضه علينا واقعنا العملي وسرعة الحياة ووتيرتها التي تسير بعجل أهملت أهم سنوات تكوين شخصية الطفل وثباته العاطفي والعقلي من قبل الوالدين في العوائل العاملة بصورة خاصة.
والمريب والمخيف تلقين الأبناء لغة إقصائية فيها الكراهية والعنصرية والتقليل من إنسانية الآخر تصل لتكفير الآخر المختلف في العقيدة أو المذهب، وهو ما يظل راسخاً في العقل الباطن للطفل، وترى ومضات منه في تعامله مع الآخرين، وقد يظل معه حتى لحظة رحيله من الدنيا بعد أن يورثه بدوره لأبنائه.
إذاً إن عمليات التطبيع الاجتماعي ونقل تراث ثقافة العنف من جيل لجيل والتي تتم عن طريق الأسرة لها تأثير عميق يتضاءل دونه أثر أي منظمة اجتماعية أخرى في تحديد المواصفات والسلوكيات الشخصية وتشكيلها، فالطفل صفحة بيضاء وعجينة طرية في يد مربّيه. ولأنه يكون في هذه الفترة سهل التأثر والتشكل، شديد القابلية للإيحاء وللتعلم، عاجزا، ضعيف الإدراك والإرادة، يعتمد في حاجاته المختلفة على أبويه، مما يعني أن السنوات الأولى من حياة الطفل وخاصة إلى سن الرابعة حاسمة وخطيرة في بناء الأمم.
والطامة الكبرى في دول الخليج العربي أكثر من غيرها من الدول العربية؛ تلعب المربية دورا محوريا في نشأة الطفل، ونحن نعلم ثقافة ومعرفة المربية المحدودة في الغالب، والمستوى النفسي والعقلي لتلك الفئة التي تعاني الأمرين بين غربة وهروب من واقع مرير، وماضٍ مرضي نفسي يتشربه الطفل ويتعرض لسوء المعاملة بطرق شتى، ويرتبط عاطفياً بها ومكمن الخطورة في هذه الفترة، أن ما يُغرس أثناءها من عادات واتجاهات وعواطف ومعتقدات يصعب أو يستعصي تغييره أو استئصالها فيما بعد، ويبقى أثره ملازما للطفل بعد اكتمال نضوجه، وهذا ما تؤكده الدراسات الأنثروبولوجية ودراسات التحليل النفسي وعلماء النفس والاجتماع، وهي المصانع الحقيقية التي تفرخ لداعش وأخواتها والرجعية في المجتمع وشخص بالغ غير سوي نفسياً في الكثير من الحالات؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة