لنفرض أن ما تقوله عن مبدأ المساواة صحيح، فماذا عن مبدأ تكافؤ الفرص؟ هل هو أيضا مستحيل التحقيق؟
قال لى أحد القراء، تعليقا على مقالى الأخير فى الأهرام، والذى كان يحمل عنوان: «كل هذا الكلام عن المساواة!» (7/3/2016)، «لنفرض أن ما تقوله عن مبدأ المساواة صحيح، فماذا عن مبدأ تكافؤ الفرص؟ هل هو أيضا مستحيل التحقيق؟».
كنت قد ذهبت فى ذلك المقال، الى أن هدف تحقيق المساواة بين البشر، الذى تعلقت به أفئدتنا لعدة قرون، ربما كان مستحيل التحقيق، لتعارضه مع نوازع أساسية فى الطبيعة البشرية، وهذا هو ما يفسر فشل تجربة بعد أخرى من التجارب التى رفعت شعار المساواة ثم تخلت عنه، كالثورة الفرنسية، والثورة الروسية، بل أثرت فى ذلك المقال بعض الشك فيما اذا كان تحقيق المساواة الكاملة بين الناس، بفرض أنه ممكن، هو دائما أمر مرغوب فيه، إذ ربما كان له من الأضرار ما يفوق منافعه.
لنفرض أن كل هذا صحيح، فماذا عن الهدف الأكثر تواضعا، والذى تعلقت به أيضا أفئدتنا منذ زمن طويل، وهو تحقيق تكافؤ الفرص بين الناس؟ هذا الهدف لا يقول بإعطاء الجميع نفس المزايا، ولكنه يقول بإتاحة نفس الفرص للجميع للحصول عليها، فإذا فشل بعضهم فى الحصول عليها بسبب نقص فيه كان عليه أن يتحمل عاقبته، هذا المبدأ مثلا، لا يقول بأن يقبل كل الحاصلين على شهادة الثانوية العامة كطلبة فى الجامعة، ولكنه يقول إن كل الحاصلين على هذه الشهادة أمامهم فرص متساوية لدخول الجامعة، فلا يمنعهم من هذا إلا نقص فى الذكاء أو فى الهمة (كما تدل على ذلك درجاتهم فى الامتحان)، وهو نقص يجب أن يتحمل تبعته ناقص الذكاء أو ناقص الهمة.
قد يبدو مبدأ تكافؤ الفرص لأول وهلة واضحا ومعقولا، وقد يبدو أيضا سهل التطبيق، ولكنه يثير فى الحقيقة من المشكلات الأخلاقية والعملية ما قد يبعث اليأس من إمكان تحقيقه هو الآخر.
إذ ما هى بالضبط أوجه النقص التى يجوز أن يتحمل المرء الذى يعانيها تبعتها؟ ولنركز على هذا المثال البسيط: فرصة دخول الجامعة أمام الحاصلين على الثانوية العامة، قد نجد من السهل أن نتفق على أن هذه الفرصة يجب أن تتاح بصرف النظر عن الدين الذى يعتنقه الطالب أو الجنس، أو المركز الاجتماعي، برغم أن علينا أن نعترف بأن بعض هذه الامتيازات كانت تعتبر حتى وقت قريب، حتى فى بعض من أكثر البلاد تقدما، سببا للتمييز والحرمان، لقد ظلت بعض الجامعات الانجليزية العريقة، حتى وقت ليس بالبعيد، تقبل الذكور دون الإناث، ومازالت بعض الكليات فى بلادنا وغيرها، تطبق ما يسمى «بكشف الهيئة»، كشرط لقبول الطالب فيها، وهو تعبير مهذب عن شرط التحقق من المركز الاجتماعي، أما الدين فلازلنا نسمع عن حالات من التمييز بسببه، لا فى الالتحاق بالجامعات، بل فى تقلد بعض الوظائف لدى التخرج منها.
ولكن ماذا عن التفاوت فى الدخل والثروة؟ إن جامعات قليلة جدا فى العالم هى التى لا تفرض رسوما على الالتحاق بها، أو أثمانا لكتبها، فأين تكافؤ الفرص بين الطالب الثرى والطالب الفقير، اذا توافرت لديهما نفس الدرجة من الذكاء والهمة؟
ولكن المشكلة تصل الى أبعد من هذا، إن مسألة الثراء والفقر والمركز الاجتماعى للمرء وأسرته، لا تؤثر فقط فى القدرة على دفع نفقات الالتحاق بالجامعة أو العجز عنه، بل قد تؤثر على الاستعداد الذهنى لدى الطالب لتلقى أو استيعاب ما يتلقاه من دروس، إن الطالب الفقير، أو الذى ينتسب الى أسرة متواضعة الدخل، يدخل الجامعة محملا بأثقال لا يمكن أن يعتبر مسئولا عنها، قد تتعلق بما اذا كان أبواه أميين أو متعلمين، يعيش فى بيئة تساعد على تحصيل العلم أو لا تساعد على ذلك..الخ، وقد سمعنا (ولا نزال نسمع) عن بعض أساتذة الجامعات، فى كليات الطب مثلا، يدافعون عن قبول أبنائهم كتلاميذ (وبعد ذلك كمعيدين) فى نفس كلياتهم، بحجة أنهم نشأوا فى بيئة تؤهلهم لأداء جيد، بصرف النظر عما أحرزوه بالفعل من درجات فى الامتحانات، هل يجوز حقا تفضيل هؤلاء على غيرهم لمجرد حظهم السعيد؟
ولكن الإخلال بتكافؤ الفرص قد يرجع الى أبعد من هذا أيضا، لا خلاف مثلا على أننا فى وضع قواعد القبول فى الجامعات، لا يجب أن نميز بين طالب من الصعيد وآخر من القاهرة أو الإسكندرية، ولكن هل نحن واثقون من أن مدن وقرى الصعيد قد حصلت، عبر عشرات السنين الماضية، (أو تحصل الآن)، على «فرص متكافئة» تسمح لها بإنتاج نفس العدد من الطلبة المتفوقين، كالذى تنتجه مدينة القاهرة أو الإسكندرية، بعبارة أخري، إن التكافؤ الحقيقى بين الفرص لا يجب أن يقاس بما يتاح الآن من فرص متساوية، بل يجب أن يدخل فى حسابه أيضا تاريخ طويل من المساواة أو التمييز بين الناس، ومن ثم لا يجب أن نشعر بالزهو بما نتيحه الآن من تكافؤ فى الفرص، اذا كانت النتيجة تتأثر فى الحقيقة بما ارتكبناه من ظلم فى الماضي.
إن فكرة «تكافؤ الفرص»، برغم ما يبدو عليها من بساطة ووضوح، تستند فى الواقع الى مفهومنا للعدل، وهذا المفهوم ليس بالبساطة أو الثبات اللذين نتصورهما، فالقول بضرورة تكافؤ الفرص، معناه أن من الضرورى فى معاملتنا للناس استبعاد العوامل التى يعتبر من الظلم السماح لها بالتأثير فى هذه المعاملة، ولكن هذا الذى نعتبره ظلما لا يتفق عليه الناس دائما للأسف، ولا يستمر الناس فى اعتباره ظلما الى الأبد، نعم، نحن نجد من السهل الآن أن نعتبر من الظلم أن تختلف معاملتنا للناس بسبب اختلافهم فى الدين أو الجنس أو لون البشرة أو المركز الاجتماعي، وربما أيضا فى الدخل والثروة، ولكن الأمر لم يكن دائما كذلك، بل ومازالت توجد صور صارخة للتمييز فى المعاملة حتى الآن، بسبب بعض هذه العوامل، أنظر مثلا الى حالة انتخابات الرئاسة الأمريكية، فى دولة المفترض أنها تراعى مبدأ تكافؤ الفرص أكثر من غيرها، إذ لا يستطيع دخول السباق للفوز بمنصب الرئيس من لا يملك أو يعجز عن إنفاق ملايين الدولارات، (وقد يضيف البعض أيضا مدى القبول الشعبى الذى تتمتع به زوجة المرشح للرئاسة)، ومازال لون البشرة حتى الآن يشكل عائقا لا يسمح بتكافؤ حقيقى فى الفرص (وقد نضيف أيضا التوجه الجنسي، أى الموقف من المثلية فى العلاقة الجنسية).
هذه العوامل (أى الإنفاق الضخم على الدعاية، أو لون البشرة أو التوجه الجنسي)، ربما لا تلعب فى بلادنا نفس الدور الذى تلعبه فى بلاد أخري، فى تهديد مبدأ تكافؤ الفرص، ولكن لدينا عاملا واحدا آخر على الأقل، يلعب هذا الدور القوي، وهو الدعاية الدينية، فهل الانتساب الى حزب ديني، واستخدام الشعارات الدينية فى كسب الأصوات لمرشح دون آخر، يعتبر إخلالا بمبدأ تكافؤ الفرص، ومن ثم يجب منع استغلاله فى الدعاية الانتخابية، أم لا يعتبر كذلك؟
كل هذه الأمثلة، وغيرها تثير نقاشا حول مفهوم العدل، ولن يكون من السهل حسم الخلاف حولها، لا شك فى أن تطور الحياة الاجتماعية قد يضع حدا لبعض هذه الاختلافات، ولكنه قد يوجد غيرها، نعم، لقد حققنا عبر عصور التاريخ بعض التقدم فى فهم وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص (فلم نعد مثلا نستبيح قتل من يختلف معنا فى الدين أو اللون)، ولكننا بلا شك قد ابتدعنا صورا أخرى للإخلال بهذا المبدأ، إن المال مثلا أصبح يلعب دورا أكبر فى التمييز بين الناس مما كان يلعبه منذ خمسمائة أو ألف عام، وكذلك درجة المهارة فى استخدام وسائل الإعلام، وقد أدى بنا هذا وذاك ليس فقط للإخلال بتكافؤ الفرص فى الواقع، بل وأيضا جعلانا أكثر استعدادا لصرف النظر عن هذا الإخلال به. هل يؤدى كل هذا بنا الى القول، بإن مبدأ تكافؤ الفرص لا يختلف كثيرا عن مبدأ المساواة التامة بين الناس، من حيث كون كل منهما سرابا خادعا، ما أن نقترب منه حتى نكتشف أننا خدعنا فيه؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة