الحوار الوطنى هو العلاج ومهما يُقال إن معايير حقوق الإنسان الدولية بمثابة التزامات على الحكومات فإن تطبيقها فى مصر يتطلب بيئة وطنية
فى حياة الشعوب الكثير من الثنائيات التى تفرض نفسها للنقاش العام وتختلف بشأنها الآراء على نحو جذرى بحيث تبدو العلاقة بين الأمرين علاقة صفرية، إن فاز طرف منهما قُضى على الطرف الآخر. ومن بين هذه الثنائيات التى نواجهها الآن إشكالية الأمن وحقوق الإنسان؛ العنصر الأول مرتبط بحالة مواجهة الإرهاب التى يبدو أنها ستأخذ بعض الوقت إلى أن نصل إلى لحظة التأكد من خلو البلاد من خطر التطرف والإرهاب وتنظيماته.
أما العنصر الثانى فيتعلق بحقوق الإنسان بمعناها الواسع المُتعدد الأبعاد الذى يبدأ بالحق فى الحياة وينتهى بتحقيق الكرامة الإنسانية بأعلى مستوياتها وما تنطوى عليه من الحرية المفتوحة بكافة أشكالها قولا وتعبيرا وتحركا وتنظيما واتصالا بالغير عبر الحدود دون أى منغصات أو قيود. وهى حالة مثالية نظرية أكثر منها واقعية، ومهما يُقال أن هناك مجتمعات ودولا تعيش مثل هذه الحالة فثمة قيود وقواعد على الأقل تنظيمية يخضع لها الجميع فى الحالات العادية، أما فى الحالات الاستثنائية كالحروب والتهديدات الوجودية للمجتمع والدولة والارهاب، فمن الطبيعى أن يتم التشدد فى تطبيق هذه القيود التنظيمية وأحيانا ترتفع وتيرتها ومستوياتها، باعتبار أن هناك هدفا أسمى لابد من تحقيقه أولا وهو حق الحياة وما يرتبط به من أمن.
وقد رأينا وتابعنا فى فرنسا، وهى أم الحريات بلا منازع، فبعد أن تعرضت لعدد من الحوادث الإرهابية منذ نهاية العام 2014 فقد فرضت حالة الطوارئ لمدة محددة، كما تم تعديل الدستور لكى يتضمن مواد تتعلق بفرض الطوارئ فى حالات مواجهة الإرهاب باعتبار أن حماية الوجود للفرد والمؤسسات أعلى قيمة من إطلاق الحريات على عواهنها، والتى قد توفر فرصا للإرهابيين لتهديد المجال العام. كذلك اتخذت إجراءات مشددة بشأن منح الفيزات والانتقال حتى فى نطاق ما يعرف بمنطقة تشنغن كلها. ومع ذلك لم يُنظر إلى هذه التعديلات باعتبارها مناقضة لتراث وتقاليد فرنسا فى الحريات، بل فُسرت باعتبارها تحمى نمط الحياة الفرنسى من التهديد والتخريب والإرهاب.
فى مصر الوضع أكثر قسوة مما هو فى فرنسا أو فى غيرها من البلدان الأوروبية التى اكتشفت وجود خلايا إرهابية لديها خططت للقيام بعمليات ولكنها تضامنت فيما بينها لتبادل المعلومات والتنسيق الكامل للقضاء على هذا الخطر المتصاعد. فنحن فى حرب فعلية منذ أكثر من عامين وما زال الأمر مفتوحا رغم كل النجاحات التى حققتها الأجهزة المعنية. ومن لا يرى هذه الحقيقة فهو أكثر من مجرد متجاهل أو متعام. ولذلك فإن الإدعاء كما ورد فى خطاب رسمى أرسلته قبل أسبوعين عدة جمعيات حقوقية لمفوضية الأمم المتحدة بأن هناك توظيفا من الجهات الحكومية للحرب على الإرهاب لفرض مزيد من القيود على حالة حقوق الانسان فى مصر، هو إدعاء ظالم بكل المعانى. وفى المقابل فإن القول بأن حالة حقوق الإنسان فى مصر قد وصلت إلى مستوى مثالى، فهو أيضا قول لا يُعتد به. والأوفق أن يُقال إن حقوق الإنسان فى مصر متعثرة ولكنها ليست ميئوسا منها، وأن الخروج من هذا التعثر يتطلب فهما ووعيا دقيقا لكل الظروف التى تمر بها مصر الآن خاصة ما يتعلق بطابع استثنائى ووقتى مثل مواجهة الإرهاب. كما يتطلب أن يكون البحث والنقاش للخروج من دائرة التعثر الراهن مصرى الهوى والمنطلق، وأن يبتعد قدر الإمكان عن أساليب الاستعداء وجلب الضغوط الخارجية سواء من الولايات المتحدة أو المؤسسات الدولية المختلفة الرسمية كالواقعة تحت مظلة الأمم المتحدة، أو التى يُطلق عليها مجازا مؤسسات غير حكومية دولية. وخلاصة القول هنا أن محاولة فرض واقع يتعلق بحقوق الإنسان استنادا إلى تصور أن الأمر سيكون أسهل إذا ارتفعت وتيرة الضغوط الخارجية فهو الوهم بعينه.
والمؤكد أن الحوار بين الجهات الحكومية وبين منظمات حقوق الإنسان لن يكون سهلا، خاصة فى ضوء حالة غياب الثقة بين الطرفين وما يثار من شكوك فى ممارسات بعض القائمين على بعض المنظمات الحقوقية نتيجة غياب الشفافية، فضلا عن تدخلات خارجية بدت للرأى العام محاولات لفرض وصاية غير مقبولة. ومع ذلك فليس هناك بديل يحمى الجميع سوى هذا الحوار والنقاش المفتوح. وهذه مسئولية مشتركة بين الحكومة والبرلمان ومنظمات حقوق الإنسان. والمثل الواضح هنا يتعلق بداية بقانون جديد أكثر رحابة وفى الوقت نفسه أكثر انضباطا للجمعيات غير الحكومية. والمنطقى أن تتقدم الحكومة أو البرلمان بمشروع قانون يخضع للفحص والنقاش العام وصولا إلى بناء قانونى متكامل يحقق مصالح الوطن والجمعيات والأفراد والحريات فى آن واحد. والمتصور والطبيعى أن تتقدم بعض الجمعيات الحقوقية والتنموية بمشروع أو تعديلات على مشروعات القوانين المقدمة من الحكومة أو بعض النواب. ويقينا أن القانون الذى سيصدر فى النهاية سيكون تعبيرا عن التوازن الدقيق بين هذه الأطراف ولن يكون انتصارا حاسما لطرف على حساب باقى الأطراف. وذلك بدوره نتاج طبيعى لأى معالجة ديمقراطية. والثابت أن واحدة من إشكاليات عدم الثقة بين الجهات الرسمية وقطاعات من الرأى العام من جهة، وبعض منظمات حقوق الإنسان من جهة يتعلق بالتمويل خاصة الأجنبى، وطالما أن الأمر بعيد تماما عن الشفافية والإعلان وفق القانون عن كل كبيرة وصغيرة بشأن الأنشطة والتمويلات الخارجية، فلن يستطيع أحد أن يستجمع تأييدا شعبيا مصريا، وقد تنجح العلاقات الخارجية لمنظمة أو لأحد الرموز فى استصدار تصريح رسمى عنيف لدولة أو لمنظمة دولية، ولكنه لن يصب أبدا فى صالح المنظمة أو رموزها لدى الشعب المصرى. بل العكس هو الصحيح. خاصة وأنه رغم كل الأنشطة والفعاليات التى تقوم المنظمات الحقوقية لدعم مفاهيم حقوق الانسان بمعناها العالمى فى البيئة المصرية، فمازال الاتجاه العام لدى بسطاء المصريين أن تلك قضية نخبوية وليست أولوية لدى الباحثين عن لقمة العيش بالدرجة الاولى، وأن بها الكثير من شبهات التدخلات الخارجية المرفوضة.
الحوار الوطنى هو العلاج وهو الطريق الذى لا بديل عنه، ومهما يُقال إن معايير حقوق الإنسان الدولية بمثابة التزامات على الحكومات لا يمكن الفكاك منها، فإن تطبيقها فى مصر كما فى غيرها يتطلب بيئة وطنية يصنعها أبناء الوطن برضاهم وتضحياتهم وليس إرضاء لبيان غاضب أو وثيقة لا تعلم عنها الغالبية أى شئ.
هذا المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة