«ميتران العاشق».. امرأة واحدة لا تكفي

لم يكن مرضه العضال الذي أودى بحياته سره الوحيد، ففي كواليس سنواته الطويلة كانت هناك أكثر من حياة موازية وأكثر من عشيقة.
والغريب أنه رغم مغامراته العاطفية المتعددة، فإن الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران استطاع أن يعيش حياة هادئة ومستقرة في ظاهرها، ترتكز على واجهة عامة بمستوى منصبه ومسيرته السياسية.
وقد يعود ذلك للتدابير والإجراءات التي كان يتخذها لإبقاء علاقاته بعيدة عن أنظار وأسماع الناس، وخصوصا عن زوجته دانيال، السيدة الأولى والناشطة في الميدان الاجتماعي والسياسي، والتي أنجبت له 3 أبناء.
ولأن مغامرات الرؤساء عادة لا تبقى في الخفاء إلى الأبد، فقد كان لا بد لأسرار ميتران أن تخرج للعلن بطريقة أو بأخرى، وهذا ما حدث حين تعرف على الإعلامي والكاتب الفرنسي فرانز أوليفيه جيزبير.
وبسرعة كبيرة، استطاع جيزبير أن ينسج صداقة متينة مع الرئيس الاشتراكي، ومع الوقت، باتت أحاديثهما تتعمق لتصل الحياة الخاصة والأسرار التي لا يمكن لأي شخص أن يصل إليها.
الوقت في العلاقات عامل خبيث، فهو من ينمي ذلك الشعور الأوّلي بالراحة ويحمله إلى ضفة الأمان، وهناك تسقط قلاع التحفظ والتكتم، فينساب المستور ليكشف شخصية مغايرة تماما لتلك التي يعرفها العامة.
وبعد وفاة ميتران بسنوات طويلة، تحولت تلك المسامرات بين الصديقين إلى كتاب بعنوان «الزمن الجميل»، عرى فيه جيزبير صورة ميتران بشكل لم يسبقه إليه أحد من المؤرخين أو كتاب السيرة.
وفجر الكتاب جدلا واسعا، ولاقى ردود فعل متباينة لكنها تقاطعت في معظمها عند الصدمة، وفي المقابل، تبين أن بعض المقربين من ميتران يعرفون أيضا الكثير، بشكل أو بآخر.
وفي وقت وجيز، تواترت قصص أخرى لتكشف عن مغامرات عاطفية عديدة، وكانت كل مغامرة تكشف أخرى حتى بدت أسرار ميتران كبئر بلا قعر، وكل طبقة كانت تكشف بشكل لافت عن جانب من حياته.
التكتم.. مبدأ في حياته
يقول الكتاب إن ميتران كان شخصية متكتمة بطبعها، ليس فقط لأنه كان في منصب حساس، ولكن طباعه كانت متحفظة بشكل كبير، لدرجة أنه يمكن أن تعمل معه لسنوات ولا تعرف عنه سوى ابتسامته الهادئة المنطبعة بنفس الشكل على شفتيه.
كانت صورته العامة تعنيه كثيرا، وهو الاشتراكي الذي يعي جيدا أن للون ربطة عنقه رسالة سياسية ولكل حركة من جسده معنى ومغزى، ولذلك، كان حريصا على أن يكون ذلك الرجل الوقور، المحب لزوجته وعائلته، والمستقيم الذي لا هم له سوى السهر على راحتها.
وحين تقدمت به السنوات، أصيب بمرض السرطان، وفي محنته تلك، تجلى حبه للتكتم بشكل سافر، حيث حرص على إخفائه لسنوات عن مواطنيه.
وعندما كانت بعض الصحف والقنوات التلفزيونية تشكك في صحته، كان يدفع أطباءه لكتابة تقارير كاذبة تؤكد سلامته من أي مرض عضال.
واستمر إصراره على إخفاء مرضه لحين نال منه وأنهكه ما أجبر عائلته، قبل أشهر قليلة من وفاته، على كشف مرضه.
ولكن حينها كان جسده النحيل الملقى على سريره في بيته بالضفة المقابلة لكاتدرائية نوتردام الشهيرة في قلب باريس، يودع أيامه الأخيرة.
ولم يكن مرضه سره الوحيد، بل كانت الصدمة حين تبين أن لميتران عشيقة وابنة غير شرعية منها.
وحتى هذه القصة لم يكن ميتران يريد كشفها، لكنه أجبر على فعل ذلك حين كشف صحفيون فرنسيين أن له عائلة موازية: عشيقة اسمها آن بانجون وابنة غير شرعية اسمها مازارين.
امرأة ثالثة
رغم الصدمة التي أثارها وجود العشيقة والابنة، إلا أن الصدمة الأكبر التي ضربت الفرنسيين كانت حين كشفت سولين دو رواييه، الصحفية الاستقصائية في جريدة «لوموند»، وجود عشيقة أخرى.
وفي كتاب بعنوان «السر الأخير»، كشفت دو رواييه أنه كانت لميتران عشيقة شابة عاش معها في السنوات الأخيرة من حياته، وتدعى «كلير».
وكلير، وهو اسم مستعار اختارته الصحفية لنشر القصة، ظلت معه حتى الأشهر الأخيرة من حياته، وقد كانت طالبة بالجامعة حين تعرفت على ميتران.
كانت تنحدر من بيئة ريفية محافظة، وكانت تصغره بـ50 عاما، وهو فاصل زمني أشبه بهوة سحيقة بينهما، لكن مع ذلك لم يمنعهما من الدخول في علاقة عاطفية استمرت لسنوات طويلة.
تقول الكاتبة إن اختيار ميتران لكلير لم يكن عبثيا بالمرة، أولا لأنها كانت من دائرة لا تتقاطع مع دوائره، بما يحفظ مبدأ السرية الذي يتبناه، وثانيا أن فارق السن يمنحه القدرة على توجيه العلاقة والتحكم فيها بشكل لا يجعله مطالبا بأي مقابل أو مهدد بأي فضيحة محتملة.
العلاقة بدأت غامضة: كلير كانت مهتمة بالسياسة ولذلك اختارت الانخراط بالحزب الاشتراكي وكانت موجودة دائما في التجمعات التي يوجد فيها ميتران لدرجة أنه مع الوقت بدأ يلاحظها ويلاحقها لكن بعينيه فقط.
وبعد أشهر طويلة، حظيت كلير بدعوة إلى الإليزيه، ومن هناك بدأت القصة لتكتمل في مكان آخر.
في الأثناء، كان ميتران يلتقي عشيقته الأولى مساء كل يوم، في شقة فارهة مطلة على نهر السين، وكان يستخدم أحد مستشاريه للتمويه، لأن الأخير كان يسكن بشقة في نفس المبنى.
ومع الوقت الذي لم يكن يمضي لصالحه، بدأ ميتران يشعر بالغيرة على عشيقته الثانية كلير، وبحسب الكتاب، كان يتصرف معها كمراهق يلاحقها بالمكالمات الهاتفية والأسئلة الدقيقة عن تفاصيل يومها.
ويكشف الكتاب أن تحول العلاقة إلى حب كان بمبادرة من كلير التي قالت للكاتبة: «هل تتوقعين أنه كان يوقظني يوميا الساعة الثامنة صباحا طيلة ثماني سنوات؟».
واستمرت علاقة ميتران وكلير لثماني سنوات كاملة، وكان ذلك حيزا زمنيا غريبا بالنسبة لرجل يهوى المغامرات العاطفية ويخشى أن يورطه طول العلاقات.
لكن مع كلير، يبدو أن الأمور كانت مختلفة، ففيها قد يكون رأى سنوات شبابه وطموحه الكبير، وقد يكون وجد الحبيبة التي لم تطالب بأي شي سوى أن تكون معه.
وبحسب الكتاب، فإن ميتران حين شعر باقتراب أجله، قال لكلير: «أنا أساعدك على أن تعيشي، وأنت تساعدينني حتى أموت»، لتكون تلك الكلمات آخر ما أسر به لها.