محمد بن راشد عن أمه في "قصتي": كلُّ من عرفها أحبَّها
كتاب الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم "قصتي" يضم 50 قصة تختصر سيرة ومسيرة عطاء تخطت نصف قرن
استرجع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، محطات من حياة والدته، المغفور لها الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، مانحا لها مساحة خاصة في كتابه الجديد "قصتي"، الذي سيرى النور قريبا.
وكشف الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في حسابه على موقع «تويتر»، السبت، عن صفحات جديدة من كتابه "قصتي"، فقال: "أحب أبناء شعبي، ولهم أكتب هذه المحطات. محطات من حياتي.. أكتب ما يسعفني به ازدحام الأوقات بالواجبات، وما تسعفني به الذاكرة من سنوات وذكريات. أكتب سيرة غير مكتملة، لعلها تكون بداية لكتابة جزء من تاريخ دولتنا، نخلده للأجيال القادمة".
ويضم الكتاب 50 قصة تختصر سيرة ومسيرة عطاء تخطت نصف قرن، من بينها قصتان عن علاقته بوالدته، نشرتهما صحيفة "الإمارات اليوم».
"لطيفة 1"
لطيفة في اللغة هي المرأة الناعمة، الرقيقة، الرفيقة، النادرة..
لطيفة في الاصطلاح هي المقولة التي تشرح الصدر..
لطيفة في الحياة هي أمّي وقلبي الذي في صدري، وأجمل وأنعم وأرقُّ وأرفق إنسانة في حياتي.
اسمها: لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان.
نسبها: ابنة حاكم أبوظبي من 1912 إلى 1922.
وظيفتها: رفيقة درب راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي، على مدى أكثر من أربعة عقود. بعد وفاتها، تغير راشد بن سعيد، ولم يعُد كما كان حتى وفاته.
كلُّ ابن يمكن أن يتحدّث عن السلام والسكينة في وجه أمه، لكن أمي ليست ككل الأمهات. كانت كلُّها سلاما وسكينة.
بعد زواجها من الشيخ راشد بعام، أنجبت ابنتها الأولى الشيخة مريم، وبعد ثلاثة أعوام أنجبت الشيخ مكتوم بن راشد، وريث الحكم، وسميْ جدّنا الأكبر الذي حكم دبي مطلع القرن العشرين. كان لمقدم الشيخ مكتوم حفاوة كبيرة. بعده ببضع سنوات، رُزقت العائلة بابنها الثاني حمدان بن راشد، سميْ والدها حمدان بن زايد، حاكم أبوظبي السابق. عاشت والدتي سنوات جميلة. رُزقت بابن آخر أيضا سمّته مروان. توفي مروان بشكل مأساوي وهو صغير. لم يتحمّل قلبُ والدتي الرقيقة الرفيقة اللطيفة فقْدَ مروان. بقيت حزينة جدا لوفاته سنوات عدة. يُقال بعدها إنها حلمت بأنها تنجب ابنا جديدا تسميه محمد. فرح والدي بالحلم وتفسيره؛ لأنه يجبّر قلبَ رفيقة دربه لطيفة. تحققّت الرؤيا، وأنجبت ولدا سمَّته محمد بن راشد آل مكتوم.
كانت محبّتها عظيمة لجميع أبنائها، لكنني كنتُ الأقرب إليها. لم أرَ حبا كحبّها، ولا قلبا كقلبها، ولا قربا كقربها. عشتُ سنواتي الأولى في كنفها وكنف والدي. كان والدي يجلسني بعمر سنتين وثلاث أمامه على حصانه، ويأخذني معه أينما ذهب.
كنتُ أحبُّ الاستيقاظ مبكرا. كنتُ أصحو قبل جميع من في المنزل لأجد الشيخة لطيفة مستيقظة قبلي، تعدُّ لنا الفطور، رغم وجود من يخدمها في البيت. لا أزال أذكرُ رائحة خبز أمي، وأذكرُ حديثها معي في الصباحات الباكرة. كنتُ أستمتعُ بالحديث معها عن العلاجات الطبية بالأعشاب. كانت معروفة بمهاراتها الطبّية. وكان الناس يجتازون مسافات بعيدة مع أطفالهم أو أقربائهم لتصفَ لهم أدوية ومراهم من خلطات الأعشاب.
كانت والدتي قادرة على إطلاق النار أفضل من كثير من الرجال، وكان بإمكانها التحكّم بالحصان أو الجمل، كأنها وُلدت على سرج. كان لها مجلسها مع النساء، ولم تكن تتردّد في نقل كل همومهن للشيخ راشد. كانت شخصيتها قوية ومحبوبة في الوقت نفسه. كلُّ من عرفها أحبَّها.
كانت تعدُّ فطوري كل يوم قبل ذهابي إلى المدرسة. في الطريق كنتُ أقسمه نصفين؛ لي النصف ولمهرة كنت أحبُّها النصف الآخر. كنتُ صغيرا، وظننتُ أن خُبز الطحين مع البيض مفيدٌ للخيل. لاحظت أمي أن غدائي بعد عودتي من المدرسة لم يكن يكفيني من شدة الجوع. علمَت أن فطوري كان يُقسَم على اثنين، فزادته لي من الغد ضعفين. اعتقدتُ أن هذا الأمر صدفة سعيدة، حتى أدركتُ بعد أن كبرتُ أنها كانت تراقبني، وتعرف أن الفطور لا يكفيني.
هكذا هي الأم؛ لا تشبع حتى ترانا نأكل، ولا ترتاح إلا بعد أن ننام، ولا تفرح إلا إذا زالت عنا الأحزان.
مهــــــما اللــــيالي تــــــدور
حبّـــك ترا في الصــدور
إنــــــتِ يا بــــــــدر البــــــدور
لك كل حــــــبّ وشـــــعور
يتبع...
"لطيفة 2"
يقول نزار قباني في رثاء شريكة حياته بلقيس:
بلقيسُ..
كانت أجملَ الملكاتِ في تاريخ بابِلْ
بلقيسُ..
كانت أطولَ النّخْلاتِ في أرضِ العراقْ
كانت إذا تَمشي..
ترافقُها طواويسُ..
وتتبعُها أيائِلْ
ذكّرتني هذه الأبيات بأمي الشيخة لطيفة. كنتُ أراها وأنا صغير. أذكرُها تمشي وخلفها مجموعة من الغزلان التي اعتنت بها منذ صغرها، ترافقها وتتابعها أينما ذهبت. كانت أمي أميرة وجميلة. كانت أمي أجمل الملكات. كانت أمي أطول النخلات. كانت إذا تمشي يرافقها غزال، وتتبعها عناية الرحمن.
أول هديّة أهديتُها لأمي كنتُ في نحو السابعة. كنتُ في رحلة عند حميد بن عمهي؛ يعلِّمني فنونَ الصيد ومهارات البقاء في الصحراء. في إحدى المرات، رأيتُ غزالا صغيرا رضيعا كانت أمّه قد ولدته قبل قليل وانفصلت عنه. في العادة، تنفصل أنثى الغزال عن القطيع لتضع وليدها. لكنها تُصاب أحيانا بالهلع حين تودُّ العودة إلى القطيع، فتتركه يتيما. كنتُ مع زوجة حميد نرقبه. ذهبتُ إليه واحتضنتُه، وانتظرنا عودة أمّه إليه. لم تعُد الأم. انتظرنا حتى اقترب المغيب. لم تعُد الأم. بقيتُ محتضنا الغزال، وعرفتُ من سيعوِّضه عن فَقْدِ أمّه، إنها أمي. أمي تحبُّ الغزلان. أمي أعطتني الحياة، وستعطيه.
جاء والدي مع مجموعة من الرجال، وبعد أن أعطى حميد الهدايا التي أعدّتها أمي لعائلته، أخذني والغزال في حضني. أخبرتُ الرجال بقصته، وأخبرتُهم أنه هدية.
وصلتُ البيت بعد طول انقطاع عن أمي. وبعد السلام والأحضان، أعطيتُها الغزال. فرحت به كثيرا. كان فرحي أكبر. عندما تعطي هدية غير متوقَّعة لمن تحبّ فيفرح بها تكون فرحتك أكبر. ابتسامتها كانت حياة؛ كانت أجمل ما في الحياة.
من يشبهك يا أمي؟ من مثل أمي؟
هناك مواقف كثيرة لا أنساها مع أمي..
ما زلتُ أذكر وأنا جالسٌ في حضنها، تحدِّثُني عن أول رحلة لي إلى لندن؛ تحدِّثني عن بلاد غريبة ومغامرة تنتظرني للسفر إلى هناك، في بطن طائر كبير سيقطع بي محيطا يمتدُّ على مدى النظر. كنتُ أنظر إليها بدهشة وهي تخبرني بأننا سننام في مبنى شاهق، لأن الجوّ في تلك البلاد يناسب النوم في الداخل، وليس كما نفعل في دبي، عندما ننام على السطح في فصل الصيف.
أوّلُ دهشة لا يمكن أن تنساها. أوّلُ معلومة لا يمكن أن تنساها. لحظات التعرُّف على أشياء جديدة لا تُنسى. لحظات حديث أمي الجميل لا أنساها أيضا.
لا أنسى أنني لم أنم في الليلة التي أخبرتني أمي فيها بأنني سأذهبُ إلى لندن. كان ذلك في عام ١٩٥٩، بعد تولي والدي الحكم بعام تقريبا.
اشترت لي أمي كندورتين جديدتين، وسترة أنيقة من أجل السفر. كنتُ سعيدا. أصبح لدي أربع كنادير. اقترحتُ على أمي أن نقصَّ الكندورتين القديمتين لأستخدمهما عند ركوب الخيل والإبل. قصَّتهما لي وهي مسرورة. كانت تفرحُ بكلِّ شيء يفرحني.
من مثلك يا أمي؟ من يشبهك يا أمي؟
"لطيفة في الحياة هي أمّي وقلبي الذي في صدري، وأجمل وأرقُّ وأرفق إنسانة في حياتي".
"عندما تعطي هدية غير متوقَّعة لمن تحبّ فيفرح بها تكون فرحتك أكبر. ابتسامة (أمي لطيفة) كانت حياة؛ كانت أجمل ما في الحياة".
"كنتُ أصحو قبل جميع من في المنزل لأجد الشيخة لطيفة مستيقظة قبلي، تعدُّ لنا الفطور، رغم وجود من يخدمها في البيت.. لا أزال أذكرُ رائحة خبز أمي".