شهدت المجتمعات الإنسانية تقلبات متلاحقة سببت بطريقة ما فقدان الكلمة مدلولها، فأصبحنا نرى تواصلاً بلا تواصل، وغذاءً دون قيمة غذائية، ومتاجر دون وجود مبنى تسوق، بل وأموالاً بلا أموال!
وبحسب إحدى الدراسات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، التي تدور حول تحول النقود ودراسة مستقبلها في العالم الافتراضي، تعتمد العديد من الدول، وبخاصة بعد تغلغل جائحة كورونا، اعتماد استخدام البطاقات الائتمانية، بدلاً من التبادل النقدي بالعملات الورقية والمعدنية، إذ تتجه المملكة السويدية إلى نموذج يكاد يخلو في تعاملها التجاري إلا من بطاقات الخصم، أو تطبيق الدفع الفوري عبر الهاتف المحمول "Swish"، وأخواتها من أساليب البيع والشراء، لتشهد تراجعاً ملحوظاً في الطلب على النقد بما يزيد على ما نسبته 50% خلال العقد الماضي، بل إن أكثر من نصف البنوك السويدية لم تعد تتعامل بالنقد!
ومن الناحية العملية، فإن طرفي البيع من بائع ومشترٍ، لا يهمهما إلا أن يتأكدا من أن عملية الدفع تمت بنجاح، وبشكل صحيح، وعليه، فإن عامل "التقبل" للنقد الجديد، هو أمر ليس بالغ الصعوبة، وبخاصة إذا توافرت وسائل سلسة الاستخدام للكبير قبل الصغير، ما يعني فتح المجال أمام سيلان "شلالات" النقد الرقمي، وفي الوقت ذاته، فهو مؤشر قوي لصالح القطاعات الخاصة، التي شقت طريقها نحو وسائل الدفع المستحدثة، وتقنياتها المستجدة باستمرار، ودافع للمؤسسات التي لا تزال تتبع نظام النقد القديم لمواكبة حاجات الواقع النقدية.
وفي هذا الصدد، تتراشق في فضاء الاقتصاد العديد من الأسئلة والتوقعات، فأين سيؤول موقع العملة القانونية الصادرة بحكم قانون الدول، وبخاصة أن مصطلح العملة القانونية لا قيمة له في مجتمع بلا نقود؟ وإلى أي حد ستكون سرعة تشكيل اتحاد عالمي يختص بمجال النقد، وبالتحديد في هذا المجال؟ وما نتاجاته المستقبلية، سيما بوجود مجتمعات لا تمتلك الحد الأدنى من الإمكانيات لهذه المواكبة؟ فهل ستبقى كنظام تتحكم به كل دولة على شاكلتها، أم هي بداية لطريق جديد في نهايته ضفاف العالمية؟
إن الأبواب المفتوحة اليوم لا تعد حكراً على الفرص، إذ شملت أيضاً طريقة التفكير، وأسلوب تناول القضايا والمسلمات الآنية، وفيما يتعلق بالسياسة النقدية، يتبرأ محافظ بنك السويد "ستيفان إنغفيس"، من اعتبار العملات من قبيل النقود، سيما أنها لا تتحقق فيها الوظائف الثلاث الأساسية للنقود "كونها وسيلة دفع، ووحدة حساب، ومخزن قيمة"، بحسب منظوره.
لا يمكننا إلقاء كل ما يحصل على عاتق التحولات والمستجدات، بعيداً عن المعطيات القابعة قلبها، وبخاصة أن صلب المواضيع المطروحة على الطاولة الساخنة غالباً ما يعتمد على أطراف وعوامل قديمة وحديثة، إذ لا يمكن قطع الغصن عن أصله!
وعليه، فإن ما تقلّبه الكرة الأرضية اليوم بين أناملها البهية من خيوط "لعبة" الرقمنة والعولمة، تنتج لنا صوراً وانعكاسات لا يمكن إشاحة عقولنا عن استيعابها، والتناغم معها، والسعي لتخطي العقبات والتحديات الحائلة بين الإنسان وتحقيقه مستقبله السليم.
وهي إحدى أبواب الانسجام الإنساني مع واقعه، سواء على المستوى الفردي، أو الجمعي، فعلى صعيد الدولة باتت لاعباً على حلبة الزمن، لا يمكنه الانسحاب، أو التراجع، فهو مخير بين الاستمرار أو الاستمرار!
وفي ضوء ذلك، فإن عالم الاقتصاد والنقد يعيش اليوم تحدياتٍ تؤول لنتائج لم يسبق لها ذات الجرأة، وربما نرى عن قريب أنباء تهرول في شريط الأخبار العاجلة عن بدء البنوك المركزية إصدار العملات الرقمية وخططا لاعتمادها وبثها في نطاقات أكبر رحابة!
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة