الرباط تحتضن كنائس مسيحية شامخة.. تعايش وحُرية
المملكة المغربية ترصد عقوبات صارمة لكل من عطل عبادة أو تطاول على إحدى دور العبادة في المملكة أياً كانت ديانتها.
على امتداد عشرات السنوات، جمعت أحياء المملكة المغربية وأزقتها، مُختلف الأعراق والديانات، تعايشت في أمن وسلام، في مُجتمع يُؤدي فيه المُسلم واليهودي كما المسيحي، طُقوسه الدينية بحرية وأمان، والجميع يعيش تحت مظلة الوطن الواحد، حتى وإن لم يكن مغربياً.
وأنت تتجول في أحياء الرباط، خاصة العتيق منها، تصادف مسجداً له تاريخ عريق، وعلى بُعد خُطوات ترى كنيسة شاهق بناؤها، وساحرة زخارفها، وبين المسجد والكنيسة، كنيس يهودي تعلو منه ابتهالات وصلوات عبرية، وأحياناً كثيرة بالدارجة المغربية.
كنائس شامخة
لا أحد يُمنع من مُمارسة طُقوسه الدينية في المغرب، بل القانون يُعاقب أولئك الذين يمنعون المُؤمنين، أياً كانت دياناتهم، من مُباشرة عباداتهم، أو عطل مُباشرة عبادة أو حفلاً دينيا، ناهيك عن تشديده العقوبة على من يُتلف بنايات أو آثارا تستخدم في عبادة ما، كما يُعاقب أيضا، حتى المُتجرئين على تلويث هذه المقامات.
وهذه الإجراءات القانونية الصارمة، والتي يُزكيها روح التعايش والتسامح بين المغاربة، جعلت المُدن المغربية تحتضن كنائس مسيحية شامخة، ففي العاصمة المغربية الرباط، على سبيل المثال، توجد عدة كنائس، تُؤدي وظائفها الإيمانية والتعبدية، بسلاسة وحرية، تماماً كالمساجد، ودور العبادة اليهودية.
ويقول محمد أمين الإسماعيلي، أستاذ العقيدة والأديان، لـ"العين الإخبارية"، إن الكنائس في مدينة الرباط تتنوع باختلاف الطوائف المسيحية فهناك الكنيسة الأرثودوكسية الموجودة بباب تامسنا، والإنجيلية في شارع علال بن عبد الله، والكاثوليكية وهذا هو النوع الأكثر وجودا مثل كنيسة سان بيير أو القديس بطرس بساحة الجولان.
أكبر الكنائس بالعاصمة المغربية هي كنيسة "سان بيير"، أو القديس بطرس والموجودة بساحة الجولان وسط المدينة، ذات الهندسة المعمارية المتميزة سواء من الخارج أو الداخل.
الكنيسة التي تم تشييدها منذ أكثر من مائة سنة أشرف على بنائها المهندس الفرنسي "لا فروج"، وتمتد على مساحة شاسعة، بلون أبيض ساطع ونظيف، ومما يميز واجهتها الخارجية هي عليتها المتكونة من مثلثات تحيط بجوانبها لتشكل قمة جميلة توجت بعلامة الصليب، ليظهر أن المكان هو دار للعبادة المسيحية.
ويرجع تاريخ تشييدها إلى بدايات القرن العشرين، وتحديدا تم تدشينها في عام 1921، من طرف المقيم العام "ليوطي"، وهي اليوم وجهة رئيسية للسياح الأجانب الزائرين للرباط، وعلى العموم يقبل عليها كل يوم أحد صباحا وفودا لإقامة الصلاة.
تحتفظ كنيسة القديس بطرس بزخرفة خاصة وتدمج بين هندسة عدة حضارات ويقول دانيال نوريسا، مسؤول الكنيسة الكاثوليكية: "لقد تم بناء الكنيسة بشكل عمراني جديد يحترم خصوصية العمران بالمدينة كما تم توظيف الفنون الإسلامية وأسقف وزجاج تم تصنيعه بالطريقة الإسلامية".
وشهدت الكنيسة زيارة بابا الفاتيكان عام 2019 في أول زيارة بالمملكة، صلى بها وألقى خطابه الذى دعا فيه للسلم والسلام، وأشاد بالتعايش الذي يعرفه المغرب.
بساطة
واذا كانت كنيسة القديس بطرس مميزة من الخارج وتجذب المارة بهندستها المتميزة والواضحة فإن كنيسة "إيفا أنجليك فرانسيز"، وتقع بشارع علال بن عبد الله، فتتميز بواجهة بسيطة وعادية، لا يميزها سوى رمز الصليب المعلق فوق مدخلها، ومن لم يلاحظ هذا الرمز لن يكتشف أن هذا البناء هو عبارة عن كاتدرائية، وأيضا فهي تحتوي على نوافذ رصت على طول واجهاتها مشكلة صفا مستقيما، تتخذ شكل مستطيلا طويلا انحرف ضلعه الأفقي ليشكل نصف دائرة، مما أضفى جمالا هو مستمد من بساطة مكونات هذا المكان.
تتعدد الأسماء ما بين "سان بيير"، و"سان بيي"، و"سان فرنسوا"، و"نوتغ دام دو لا بي"، وغيرها لكن يظل طابع البساطة هو الطاغي على كنائس مدينة الرباط من الخارج، لكن داخلها يشهد تميزا واضحا في امتزاج ما بين الطابع الهندسي الإسلامي والمسيحي.
ويقول "الإسماعيلي" إن الكنائس في هذه المدينة لا تتميز ببنائها بل بداخلها، فجميع الطوائف المسيحية التي من الممكن أن نتخيلها هي موجودة هنا، مما يجعلها تتشابه مع كنيسة القيامة في القدس.
ويضيف أن العاصمة المغربية كانت هي "غرام" المارشال "ليوطي" الملقب بـ "الفاتح" في كتب التاريخ الفرنسية، لذلك منع أن يخرج أي مكان داخلها عن طابع المدينة وأن لا يعلو أي بناء عن صومعة حسان، وبالتالي فالكنائس في الرباط تشبه العمران الرباطي فنجد "سان بيير" مثلا منقسمة على جزئين، والسبب راجع إلى أن "ليوطي" لم يرد لأي بناية أن تحجب عنه صومعة حسان، "إذ كان يطل عليها من داخل بناية محكمة الاستئناف قديما وكانت مكان البرلمان اليوم".
إبداع
ويقول أحمد البوكيلي، أستاذ جامعي متخصص في الدراسات الإسلامية، عن كون كنائس الرباط تتسم بالبساطة في واجهاتها الخارجية، في حين يكون داخلها أحسن وأبهى من الخارج إن ذلك راجع إلى كون أن "جغرافيا الكنيسة تعكس فلسفة التجسيد في الدين المسيحي، لذلك نجد أن الكنيسة تزين بتماثيل ومنحوتات للصليب، ولعيسى عليه السلام ومريم عليها السلام، كما أن الواجهة الأمامية للكنيسة والصور في الجغرافيا الداخلية لها مرتبطة بالمسيح عليه السلام، وهو عنصر مقرب رمزي لحضور الديانة في قلوب أتباعها، وعلى العكس فالمجسد لا يوجد فيه عناصر التجسيد بل يطغى عليه طابع التجريد، أي التوحيد في الدين الإسلامي".
الكنائس في الرباط على غرار جميع المدن المغربية تعكس أن البلاد تشهد تعايشا دينيا مهما على خلاف بعض البلدان الأخرى، لكن هذا لا يمنع أن هنالك حدود فالتبشير الديني هو من الأشياء التي يعاقب عليها القانون المغربي.
ويعزز هذا الرأي الفقرة الثانية من المادة 220 في القانون الجنائي المغربي والتي تنص على أنه يعاقب بقضاء ستة أشهر إلى ثلاث سنوات في السجن لكل من استخدم "وسائل الإغواء من أجل زعزعة إيمان مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، إما عن طريق استغلال ضعفه أو حاجته، أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أوالمياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات".