العيطة المغربية.. شبح الاندثار يلاحق "موسيقى" قاومت الاستعمار
شكل لون "العيطة" الغنائي تراثا مغربيا توارثته الأجيال في المملكة على مدى عقود، إلا أن هناك تخوفات من اندثاره إذا ما لم يتم حفظه.
ولا يعد فن العيطة مُجرد أغانٍ للمُتعة والترفيه، بل كان منذ تأسيسه وسيلة لتأريخ عدة أحداث في تاريخ البلاد، وأيضاً مرسالاً تتواصل به القبائل والمُدن المغربية، دون الحديث عن قوة كلماته في التغني ببطولات المُقاومين، ومُقاومتهم للاستعمار آنذاك.
أصل لفُروع متعددة
رائد فن العيطة، ومُؤرخها، الفنان حجيب فرحان، المعروف بـ"حجيب الرباطي"، يوضح أن تاريخ فن العيطة يمتد للقرن التاسع عشر ميلادي، إذ نشأ في قبائل عبدة ودكالة والشاوية، وهي القبائل التي تتواجد وسط المملكة، في مُدن الدار البيضاء، سطات، برشيد، الجديدة وآسفي، قبل أن تتخذ أشكالاً أخرى.
حجيب يوضح أن هذه الموسيقى لم تظل على نمط واحد، بل اتخذت أشكالاً عدة بحسب المناطق التي وصلت إليها، فصارت أنواعاً مُتعددة كـ"حصباوية، مرساوية، جبلية، زعرية، شياظمية، فيلالية"، وهي أسماء تُنسب إلى المناطق والقبائل، حيث تُؤدى أغاني العيطة بأسلوب أهل المنطقة.
هذا النمط الغنائي التاريخي والشعبي في المغرب، تألقت فيه نسوة كُثر، إذ كان من غير المُستساغ آنذاك أن يؤديه رجل، في حين سُمي بـ"العيطة"، ومعناها في الدارجة المغربية "النداء"، نظراً لكون أشعاره تُؤدى على أسلوب نداء واستغاثة، بداية بالأولياء والصالحين، أو الأجداد، وأحيانا بعض القبائل أو المسؤولين عليها.
أدوار مُتعددة
كما أن العيطة، هي فن إبداعي يتحقق كنصوص شعرية وموسيقية وغناء ورقص، ويتم في شكل أداء جماعي، وتلهم كما تلهب إيقاعاته العروبية وكلماته القوية حماس السامعين، بحسب تعريف لحسن نجمي، الشاعر والباحث المتخصص في فن العيطة.
وعدد نجمي جُملة من الأدوار التي لعبها فن العيطة في تاريخ المغرب، إذ اعتمد على قصائد محبوكة تحمل قصصا وتتغنى بأشخاص، وتنقل أحاسيس عن مواضيع مختلفة، بداية بالتغني بالأوطان وصولا لرثاء الحال.
هذا الفن، بلغ ذُروته أيام الاستعمار، إذ لعب دوراً مهماً في نقل أحاسيس وحماس الشعب المغربي، وتحفيز المقاومين على مُحاربة المُستعمر وطرده من البلاد، كما استعمله المقاومون المغاربة لتمرير رسائلهم إلى الخلايا السرية، بحسب نجمي.
ونظراً للدور المحوري الذي لعبه آنذاك، فإن الاستعمار الفرنسي سبق أن منع الكثير من قصائد وأغاني العيطة، إذ يوضح نجمي في هذا الصدد أنه كان يعتبرها بمثابة "نداءات تحريضية ضده تساهم في إذكاء حماس الثوار حينها".
مخاوف من الاندثار
وعلى الرغم من الأهمية التي يتميز بها هذا الفن في تاريخ البلاد، إلا أن الكثير من قصائده لم تصل الأجيال الحالية كاملة، وبعضها لم يصل أصلا، إذ يُرجع الباحثون في مجال العيطة هذا الأمر، إلى كونه تُراثا شفهيا، لم يتم توثيقه أبداً، الشيء الذي أدى إلى اندثار جُزء مهم منه، وتحريف جُزء آخر، كما الحال مع باقي أنواع التُراث الشفهي في العالم.
وفي هذا الصدد، يُبدي رواد هذا الفن والمُهتمون به بحثاً ودراسة، مخاوفهم من اندثاره في خلال السنوات المقبلة، خاصة مع ظهور أنماط غنائية جديدة، تحظى باهتمام وإقبال شبابي. وذلك بالموازاة مع عدم توثيق هذه القصائد والحفاظ عليها.
ويورد نجمي أن "العيطة هي النوع الموسيقي المغربي الأكثر تعرضا للانقراض والمحو بسبب انعدام استراتيجية ثقافية للحرص على توثيق التراث الشفوي المغربي، وبسبب انعدام تربية ثقافية".
ومن بين الأسباب التي قد تُعجل بـ"انقراض" هذا النوع من الفن، بحسب المتحدث، أن الناس باتوا يعتبرون أن فن العيطة هو فن يخدش الحياء"، قائلا إنه تم تحويله من دوره الأساسي أيام الاستعمار إلى شيء آخر في الوقت الحالي.
كما أكد أن هذا راجع لأسباب تاريخية وأسباب ثقافية، خاصة "التطور الثقافي للمغرب منذ العهد المريني وقدوم الأندلسيين إلى المغرب، حيث تم تبني منظور ثقافي أدى إلى خلق تراتبية ثقافية داخل المجتمع، كما لعبت الفترة الاستعمارية دورا في ذلك أيضا خصوصا بمدينة مراكش مع الباشا الكلاوي".
ارتباط بـ"الشيخة"
ويقول نسيم حداد، الفنان المغربي والباحث في التراث الشعبي، في حديثه لـ"العين الإخبارية"، إن "الشيخة" أو "الشيخ" هو ذلك الفرد الذي يمارس فن العيطة، متحدثا عن أنه في وقتنا هذا "اختلط الأمر وأصبح ينظر لها بشكل سطحي".
ويدافع الفنان المغربي عن "الشيخة" قائلا إنها بعيدة كل البعد عن التصنيفات التي بات بعض أفراد المجتمع يربطونها بها، مذكرا بالدور التاريخي الذي قامت به أيام الاستعمار التي كان خلالها يتم استعمال قصائد العيطة لتمرير الرسائل الثورية.
أما عن ربط فن العيطة بالنساء فقال الباحث إنه لا يمكن ربطه بأحد الجنسين، مشيرا إلى أنه تمت ممارسته من قبلهما معا على مر العصور "وفي كل مرحلة يسطع نجم بعض الشخصيات من كلا الجنسين".
وقال حداد إن الفن هو لكليهما معا منبها إلى أن عددا من الباحثين يربطون النظرة الدونية والقدحية للشيخة بمرحلة الاستعمار "إذ انتقلت الشيخة خلالها من مجرد شاعرة تلقي شعرا تلقائيا إلى مهنة فنية بحضور نظام الأجر".
مُحاولات للإحياء
وفي الوقت الذي يدق المُختصون ناقوس الخطر، مُحذرين من إمكانية انقراض هذا النوع الغنائي التاريخي، يُبادر بين الفينة والأخرى فنانون شباب إلى إعادة أداء مجموعة من أغاني العيطة الخالدة، وتقديمها للجُمهور بشكل حديث.
ومن أبرز هذه المحاولات التي لقيت نجاحاً وتجاوباً ملحوظاً، ما قامت به المُغنية المغربية سُكينة فحصي، إذ قامت بإعادة غناء إحدى قصائد "خربوشة"، وهي مُغنية مشهورة، كانت تؤدي قصائد تنتصر لقبيلتها التي تعرضت للغزو من طرف قائد قبيلة مُحاذية، قبل أن ينتهي بها المطاف مقتولة على يده.
هذه الأغنية لقيت تجاوباً كبيراً من طرف الجُمهور، إذ حصدت إلى حدود الساعة ما مجموعه 15 مليون مُشاهدة على موقع يوتيوب، وبسببها اشتهرت المُغنية، خريجة برنامج "آراب جوت تالنت".
مُحاولات إحياء هذا الفن، لم تقتصر فقط على إعادة أداء الأغاني القديمة، بل تأليف أخرى جديدة، تتغنى بالأحداث الحالية، والتي كان آخرها نجاح الجيش المغربي في تطهير معبر الكركرات الحُدودي من ميليشيات ومُرتزقة البوليساريو.
وفي هذا الصدد، أدى نجم فن العيطة، حجيب فرحان، أغنية جديدة عنونها بـ"الراية فرفرات في الكركرات"، ومعناها أن العلم المغربي سطع عالياً في منطقة الكركرات الحُدودية بعد تطهيرها من ميليشيات البوليساريو.
الأغنية حصدت إلى حدود الساعة حوالي 5 ملايين مُشاهدة، كما أنها دخلت الترند المغربي على موقع يوتيوب.
aXA6IDMuMTM4LjY5LjM5IA== جزيرة ام اند امز