فسيفساء التنوع الإثني بالعراق في طريقها للاختفاء
التعددات الإثنية في العراق وسياساته الحالية تجاهها، السبب المباشر في هجرة المسيحيين من بلاد الرافدين.
بالرغم من أن "ناحوم القوشي 33 سنة"، وهو مسيحي عراقي، حاصل على مؤهل جامعي ولديه وظيفة ومصدر دخل جيد، كذلك شقيقه الأكبر "منهل"، إلا أنهما أقنعا والديهما بمغادرة العراق والهجرة الى بلد آخر، جميع أفراد الأسرة فقدوا الثقة أن يكون مستقبل بلاد الرافدين أفضل من وضعه الراهن.
وقال "ناحوم"، لـ"بوابة العين": "لا نشعر بالسعادة ولا نستطيع العيش بصورة طبيعية في العراق، صحيح نحن نسكن في إقليم كردستان وهو آمن مقارنة بمناطق العراق الأخرى، لكنه البلد ذاته، العراق الذي تتربص به الدول المجاورة والبعيدة والمنظمات الإرهابية والأشرار من مختلف دول العالم، لقد دمروا البلد ولم تعد تتوفر إمكانية لحياة طبيعية للبشر فيه".
وأضاف "سنغادر البلد ونسجل لدى الأمم المتحدة وننتظر فرصة الهجرة أو اللجوء لأي بلد يقبل بنا.. ستختفي العديد من المكونات السكانية العراقية ولن يعود لها وجود، هذا مؤلم جداً".
وتؤكد مصادر رسمية عراقية حصول تراجع كبير في أعداد مكونات سكانية مثل المسيحيين والإيزيديين والصابئة والبهائية. وقال ممثل المسيحيين في مجلس محافظ دهوك بإقليم كردستان، نينوس عوديشو، لـ"بوابة العين"، "كان تعداد المسيحيين في العراق حتى عام 2003 يصل إلى مليون ونصف المليون نسمة، أما الآن فقد بقي منهم 300 ألف، البقية هاجروا إلى خارج العراق".
وأضاف "خلال الفترة التي تلت عام 2003، قامت الأمم المتحدة لوحدها بمساعدة نحو 700 ألف مسيحي عراقي على الهجرة واللجوء إلى بلدان مختلفة، حتى المتبقون منهم يريدون الهجرة هم أيضاً.. لا أحد يرغب بالبقاء".
القس المسيحي "أسعد حنون" من سكان محافظة دهوك، قال عن سبب هجرة المسيحيين، "عدم الشعور بالأمان سبب أساسي، المسيحيون لا يعلمون كيف سيكون مصيرهم، الحكومة العراقية وأمريكا يلعبون لعبة على الأرض العراقية على حساب السكان، أين ستنتهي هذه اللعبة السياسية لا نعلم".
وأضاف لـ"بوابة العين"، "لقد ظهر فكر متطرف في العراق ابتداء من عام 2003 لا يستطيع المسيحيون أن يعيشوا في ظله".
وتقع الكثير من المناطق الأصلية للمكونات السكانية الصغيرة مثل المسيحيين، والإيزيديين، والكاكائية، على شريط يفصل بين إقليم كردستان والمناطق التي تديرها الحكومة الاتحادية العراقية، وقد تحولت مناطق الأقليات إلى ساحة للصراع ابتداء من 2014 عندما سيطر عليها تنظيم داعش ثم جرت معارك معه لاستعادتها، وبعد طرد التنظيم الإرهابي من تلك المناطق دخلت تنظيمات مسلحة أخرى تابعة للحشد الشعبي إلى تلك المناطق وتقع اشتباكات مسلحة بينها وبين قوات البشمركة الكردية منذ منتصف أكتوبر الماضي، وقد أدت كل هذه الأحداث إلى نزوح السكان وعدم استقرارها.
وقالت ممثلة المسيحيين في برلمان إقليم كردستان، وحيدة ياقو، "طالبنا المجتمع الدولي بالتدخل لحماية مكونات مناطق سهل نينوى وخاصة المسيحيين لأنهم في خطر، في السابق كان داعش يهددهم، الآن الحشد الشعبي، إن لم تتوفر الحماية لهم ستحدث هجرة جماعية".
بدوره، رأى الباحث المتخصص في شؤون الأقليات العراقية، "خضر دوملي"، أن " موضوع الحفاظ على التنوع الإثني في العراق غائب عن الاهتمام والتنوع السكاني في خطر واضح"، مشيراً إلى أن السبب "ليس هجرة أبناء المكونات القومية والدينية إلى الخارج بل بسبب فقدان العراق وجهه الحضاري والمدني وسيطرة الشمولية كفكر وسياسة".
وأضاف لـ"بوابة العين"، "الأخبار مؤسفة، الصابئة المندائيون كان تعدادهم 120 ألف نسمة في عام 2003 بقي منهم في العراق 8 آلاف فقط أغلبهم انتقل معظمهم من مناطقهم الأصلية بجنوب العراق إلى إقليم كردستان، البهائيون باتوا يخشون من التصريح بهويتهم ووجودهم ولا يعرف العدد المتبقي منهم، الإيزيديون كان تعدادهم بين 500- 600 ألف هاجر منهم إلى خارج العراق أكثر من 100 ألف، وضع الباقين في العراق سيء هاجمهم تنظيم داعش ودمر مناطقهم وقتل رجالهم وسبى أكثر من 6500 من نسائهم وفتياتهم".
وتابع قائلاً "للأسف وإزاء كل ما يحصل مع المكونات السكانية المختلفة في العراق من استهداف لهم ولمواقعهم المقدسة.. أكثر من 40 موقعاً دينياً للمسيحيين تم هدمها، و48 للإيزيديين، ولمجموعات سكانية أخرى على يد الجماعات الإرهابية، بالمقابل لا توجد إجراءات من مؤسسات الدولة لمعالجة هذه المشكلة، العكس هو الذي يحصل، الخطاب الديني، والمناهج الدراسية، والإعلام كله يلعب دوراً سلبياً في الحفاظ على التعدد السكاني".
وأوضح "لا يمكن إصلاح الخلل، طالما أن تشجيع التفاهم والتعايش بين أتباع الديانات والقوميات المختلفة غير قائم، الأنشطة التربوية والتعليمية والإعلامية والثقافية بعيدة عن هكذا أمور ولا نرى سوى بعض الكتابات التي تدعو للحفاظ على التنوع".
وأشار إلى أن "العراق بسياساته الحالية تجاه التعدد الإثني لسكانه تأثر سلباً بخطاب وسياسات جاءته من الخارج"، مبيناً، "بالمقابل المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية ذات العلاقة ورغم إدراكها ما يحصل للأقليات في العراق لا تعرف كيف تتحرك على الأرض، الكثير من المناطق التي كانت تقطنها قوميات وأديان مختلفة باتت خالية ولا يستطيع الكثير من السكان العودة إليها مثل مدينة الموصل التي لا يعود المسيحيون والأكراد والإيزيديون إليها بعد تحريرها من داعش خوفاً على حياتهم".
ودعا الباحث خضر دوملي إلى "مراجعة السياسات الوطنية بما يؤدي إلى تغيير طريقة تفكير السكان بحيث تتعزز لديهم مبادئ احترام حرية الاعتقاد والتعدد القومي والديني والمذهبي للجميع، كما طالب المجتمع الدولي بممارسة الضغوط على السلطات العراقية لوضع سياسات تحمي التعدد والتنوع وتساعد أبناء المكونات المختلفة حتى لا يهاجروا".
وتعد مسألة إعادة الاستقرار وتثبيت الأمن من أكبر التحديات التي تواجهها السلطات العراقية منذ الإطاحة بنظام الحكم السابق في 2003، حيث ضربت العراق موجات عديدة من أعمال العنف، على يد جماعات إرهابية مثل القاعدة، كما وقعت مصادمات عنيفة ذات خلفية طائفية، قبل أن يسيطر تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق في 2014، وكل هذه الأحداث أدت إلى عجز حكومي في تطبيق سياسات تنموية واجتماعية وإصلاحية.
ومرت قبل ذلك على العراق حرب السنوات الثماني مع إيران للفترة 1980-1988، ثم حرب الخليج الثانية عام 1991 وقد تسببت بمشاكل كبيرة للعراق على الصعيد الأمني والاقتصادي والاجتماعي لا تزال تأثيراتها باقية.