قاعدة القامشلي الجوية رسالة روسية واضحة، مفادها أن سوريا منطقة نفوذ حيوي واستراتيجي لها
إنشاء موسكو قاعدة جوية في القامشلي لا يعني ملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي من بعض مناطق الشمال السوري فحسب، بل ثمة أهداف روسية تكتيكية واستراتيجية تقف وراء هذه الوثبة السريعة، ليس من شك في أن وصول القواعد العسكرية الروسية إلى القامشلي يعني تعزيز وجودها في جميع أنحاء سوريا، بعد تثبيت قواعدها العسكرية على المياه الدافئة في طرطوس وحميميم في اللاذقية.
القاعدة الجوية تمثل إشارة روسية إلى دول المنطقة على أن الوجود الروسي لن يكون عابراً في المنطقة، ولن يكون مؤقتاً بعد تكريس وتثبيت وجودها العسكري الاستراتيجي في قاعدتي طرطوس واللاذقية على الساحل السوري، والسياسي في أدق تفاصيل الملف السوري مع جميع اللاعبين داخلياً وخارجياً
جغرافياً تمثل منطقة القامشلي قاعدة مثلث سوري مهم يربط سوريا بالعراق وتركيا، وهي مناطق للوجود العسكري الأمريكي وقواعده في شمال العراق وفي شمال وشمال شرق سوريا وفي تركيا، أي أن طبيعة الخدمات التي ستقدمها القاعدة الجوية للروس ستسهم في تحقيق كثير من أهدافهم من استطلاع ومراقبة القواعد الأمريكية في محيطها، وكذلك التركية وحتى الإيرانية، ما يعني وضع تلك القواعد وعملياتها تحت المنظار الروسي من جهة، ومن جهة أخرى توسيع مساحة الرؤية الاستراتيجية الروسية عبر نوافذ سوريا باتجاه الولايات المتحدة وقواعدها في جميع المنطقة من المحيط إلى الخليج؛ لأن قواعد موسكو في طرطوس واللاذقية لن تعمل بمعزل عن قاعدتها الجوية المستحدثة بالقامشلي، فهي ذات أهداف عسكرية وسياسية بطابع استراتيجي في منطقة حيوية تمنح موسكو جملة من عناصر القوة والتأثير في الملف السوري بداية، وليس انتهاء بكثير من ملفات المنطقة والإقليم لاحقاً، وبهذا المعنى فإن إنشاء قاعدة جوية روسية في القامشلي لا يستهدف البعد المحلي السوري والإقليمي فقط؛ لأن موسكو ترمي من وراء ذلك إلى مد نفوذها وتوسيع دائرة رقابتها وحتى سيطرتها على أي بقعة جغرافية متاحة لمواجهة سياسات الولايات المتحدة على مجمل مسارح الصراع التاريخي القائم بينهما، وكذلك مجابهة خطط حلف شمال الأطلسي الذي يقلق الكرملين بتمدده ووصوله إلى بعض الحدائق الخلفية لروسيا في دول البلطيق وبعض دول شرق أوروبا، فضلاً عن أنها لا تخرج عن سياق الصراع على النفوذ في تلك المنطقة بينهم وبين الأمريكان الذين أنشأوا في شمال وشمال شرق سوريا أكثر من سبع قواعد عسكرية لهم متعددة المهام.
ليس من شك في أن قاعدة القامشلي الجوية رسالة روسية واضحة، مفادها أن سوريا منطقة نفوذ حيوي واستراتيجي لها، وأن موسكو المرجع الأول والمهم بكل تفصيل متعلق بحاضر ومستقبل سوريا، علاوة على أنها مسعى روسي في محاولاتها للاقتراب من مناطق النفوذ الأمريكي في شمال وشمال شرق سوريا بعد إعادة واشنطن مئات من جنودها إلى مناطق وجود آبار النفط، كل ما تقدم لا يلغي حقيقة جوهرية متعلقة بهدف موسكو لتعزيز نفوذها وتوسيعه على جغرافية سوريا؛ إذ إن وجود القاعدة العسكرية الجوية يتيح لها السيطرة والتوجيه وإدارة مطار القامشلي للطيران بشقيه المدني والعسكري، أي التحكم أكثر في حركة الطيران في الأجواء السورية، في ظل دور القوات الجوية الروسية في بقية المطارات السورية، ومن ثم إمكانية التأثير المباشر على قوى الصراع المحلي، كونها قاعدة انطلاق إضافية لعملياتها العسكرية التي يمكن أن تنفذها مستقبلا ضد الجماعات الإرهابية على امتداد الشمال والشرق السوري ضد ما تبقى من فلول داعش وضد مسلحي هيئة تحرير الشام في إدلب وضد مسلحي المعارضة السورية الموالين لأردوغان، في حال شكلوا يوماً تهديداً للقوات الحكومية السورية أو للوجود الروسي في الشمال وفي عموم سوريا.
أما في البعد الآخر فإن القاعدة الجوية تمثل إشارة روسية إلى دول المنطقة على أن الوجود الروسي لن يكون عابراً في المنطقة، ولن يكون مؤقتاً بعد تكريس وتثبيت وجودها العسكري الاستراتيجي في قاعدتي طرطوس واللاذقية على الساحل السوري، والسياسي في أدق تفاصيل الملف السوري مع جميع اللاعبين داخلياً وخارجياً، ما قد يفسح في المجال لتحقيق رغبة روسية أخرى وهي اقتراب بعض عواصم المنطقة منها أكثر، خاصة بعد توسع وترسيخ علاقاتهم مع دول مؤثرة مثل السعودية والإمارات ومصر، وزيارات بوتين لتلك الدول، فضلا عن نسيج محكم من العلاقات حاكته موسكو مع جميع دول المنطقة، وصولا إلى طرح مبادرات متكررة للقيام بأدوار إيجابية في تقريب وجهات نظر بين الدول، حيازة عنصر تأثير إضافي في سياق النهج الروسي من خلال النافذة السورية على قاعدة التفاهم والاتفاق مع دمشق من جانب، وإشهار ذلك الاتفاق وتوظيفه على الطاولة السياسية في أي زمان ومكان وأمام أي لاعب كان من جانب آخر، وأهمهم الأمريكيون، يمنح موسكو مساحة مناورة أوسع مع جميع الأطراف، ومن أجل مختلف الأهداف السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة