سرت قُشعْريرة في جسد جاري وصديقي طارق الحلواني رغم ميل الليلة إلى الدفء.
تغيرات المناخ لم يكن لها الاهتمام نفسه عام 1996، وتوقعات الأرصاد لا تختلف عن "حار جاف صيفا دفيء مُمطر شتاء"، وفصل الربيع بدأ للتو منذ 10 أيام.
من صندوق السيارة الداخلي أخرج "طارق" آلة زمن فضية صغيرة، انتابني صمت إزاء التطور، الذي وصلنا إليه. قال بعد سؤالي إنه جهاز cd rom، فلم أزد على "آه طبعا طبعا"، قلتها جهلا قبل تعقيبي بأن هذا الابتكار يفترض أن يرتدي ملابس سوداء ومكانه الحبس في أحد أدراج الكمبيوتر، فكيف أصبح حرًّا طليقا بهذا الشكل الفضي اللامع؟
أكرم حسني يصغُر "طارق" بـ3 أشهر، وكلاهما التحق بكلية الشرطة المصرية في عام واحد، ويشتركان في الاستماع إلى أغنيّات محمد منير، فيما لا تستهويني أغنيات "الكينج" أو أسلوبه، لكنني أتعامل معه مثل توقيعي على شيك مصرفي: "فقط لمسيرته الفنية لا غير".
بحماس شديد وضع "طارق" أسطوانة "من أول لمسة" وأغلق باب الابتكار شديد العجب، الذي أهداه إيّاه والده العائد من لندن بعد رحلة عمل.
حتى هذه اللحظة كان "الشريط" هو سيد الموقف، فيما نتعامل مع تلك الدائرة اللامعة باستخفاف شديد بلا استشراف أنها ستحكم العالم.
بدأ اهتمامي بأسماء الشعراء والملحنين والموزعين مع طرح "شريط" علي حميدة "لولاكي" عام 1988، كانت الأغنية 4 جمل تقريبًا فقط وحققت نجاحًا لا يمكن وصفه، وقررتُ معرفة اسم مؤلفها، وكان عزت الجندي، أما معرفة اسم مهندس الصوت واسم الديجيتال ماستر لأي ألبوم فكانت نصيحة من صديقي "أشرف" صاحب محل "شرايط"، وكان "مايسترو" ألبوم "من أول لمسة" هو "الحريف" محمد صقر.
"طارق" تخرج في كلية الشرطة المصرية برتبة ملازم، وكان أول المتخرجين فيها ضمن دائرتي الضيقة، إذ لحق به عيسى والبرنس وكريم وعمرو وضياء، ونظرًا لتقارب الدفعات أو الجيرة فالجميع يعرف الجميع.
كوني لا أفهم في التكنولوجيا، تركت صديقي يتعامل مع أعجوبة الزمن وتمعنت في أسماء الشعراء، وكانت أسماء مبشرة، فها هو عادل عمر وبهاء الدين محمد ومصطفى كامل ومجدي نجيب وعلي سلامة وكوثر مصطفى، وكان للأخيرة حظ مع شعبية منير بأغنية "مدد يا رسول الله.. أقسمت بالعذراء"، أما الملحنون فهناك أغنية من ألحان منير مراد وكلمات فتحي قورة، أتذكر أنني أودعتها جانبًا خارج المنافسة لجمالها بالتأكيد، وسعدت باسم حسن أبو السعود، مكتسح مقدمات المسلسلات في ذلك الوقت، ووجيه عزيز وما له، وعصام كاريكا يزين الأسماء بالطبع، أما التوزيع فكان أشرف عبده "صانع المهنة" وأشرف محروس "المبدع".
أكرم حسني لم تستهوِه الحياة الشرطية بما فيها من متاعب وجهد ومواجهة دائمة مع الخارجين عن القانون، طغت عليه موهبته الفنية واستسلم لها وقرر بشجاعة تحويل مسار حياته وتقديم استقالته بعد عشر سنوات لينطلق في رحلة فنية يحقق فيها نجاحات تلو أخرى، وبالتأكيد استمع "أكرم" إلى "شريط من أول لمسة" عند طرحه، كان الألبوم مختلفًا بشهادة الجميع، ووجدتني أتعلق بعدد كبير من أغنياته، خاصة "من أول لمسة"، لأنني حينها كنت أعيش قصة حب وهمية ارتديتُ فيها ثوب الساذَج، وبعد انتهائها اتخذتُ أغنية "قبل ما تحلم فوق احلم وإنت فايق" شعارًا لأنني كنت في أمسّ الحاجة إلى أن "أفوق من الوهم"، والمدهش أن مع نهاية العام نفسه وقعتُ في حب جديد وأصبحتُ أدندن كثيرًا أغنية "ليلى"، لم يكن اسم حبيبتي الجديدة، ولكنها كانت تغنيها لوالدتها "ليلى".
بصمة محمد منير الفنية في هذا الألبوم لا يضاهيها بصمة، حقق الألبوم نجاحًا كبيرًا على المستوى الجماهيري والنقدي، وباع نُسخًا لم يحققها منير من قبل، وأتذكر تصريحاته الصحفية التي قال فيها إنه "خاطب كل الجماهير من خلال هذا الألبوم وليس جمهوره فقط"، ولمَ لا أصدقه وقد جذبني إليه بالفعل، ولم أكن يومًا من مريديه أو مجاذيبه.
بعد تخرجه سافر جاري وصديقي طارق الحلواني إلى أسيوط، جنوب مصر، والتحق بمديرية أمنها في أوج ظاهرة إرهاب التسعينيات.. كنا نسترق أخباره في عصر ما قبل الهواتف المحمولة لنطمئن عليه، وأصبحت أنتظر "شرايط" محمد منير وحيدًا، وكان التوجس قائد قراراتي، خوفًا ألا يلقى المولود الجديد استحساني، وكنت أسأل أصدقائي وجيراني من خارج دائرة مريدي ومجاذيب منير عن رأيهم في الألبوم الجديد قبل شرائه، وإذا كانت المحصلة أغنية أو اثنتين فلا أشتري الألبوم.
فيما بعد، استمعت إلى كل أغنيات منير الصادرة، نظرًا لطبيعة عملي، لم أعد المتذوق، بل الناقد أيضًا، وبعد بداية الألفية الجديدة بسنوات قليلة -لا أتذكر عددها حاليًّا- أخبرني أخي الأصغر أن شقيق صديقه المقرب منذ المرحلة الابتدائية يشارك في تنظيم حفلات محمد منير وهو مقرب جدا من "الكينج".
أخذني الفضول وتواصلت مع محمود منير، رحمه الله، وهو ابن عم محمد منير، وكان شخصًا طيبًا ودودًا، فعلت ذلك لأتأكد من أن أحمد عصام لا يشارك في تنظيم حفلات منير، بل هو مهندس المؤثرات وسر خروجها بشكل غير تقليدي، فهاتفت "عصام"، وكان هو الآخر ودودًا جدًّا، فوجّه لي دعوة لحضور إحدى بروفات محمد منير، فقبلت طبعًا وذهبت، وفي الحقيقة لم أستمتع بحضور بروفة يعلم "ملِكُها" أن الصحافة تسجلها، لكنني مع ذلك تابعت بشغف مسيرة أحمد عصام المستحدثة حتى أصبح منذ سنوات عدة "علامة مسجلة" في حفلات عمرو دياب وتامر حسني ومحمد حماقي وكل "السوبر ستارز" في مصر والوطن العربي.
اتخذ صديقي "طارق" قرار أكرم حسني نفسه وقدّم استقالته من السلك الشرطي بعد سنوات، لكنه كان عكس أكرم، فـ"الحلواني" كان شغوفًا بخوض غمار البيزنس وإدارة الأعمال، العامل المشترك أن كليهما شقّ طريقه حسب وجهة نظره وحقق نجاحًا في مجاله لا يختلف أبدًا عن نجاح تجربة منير مع أحمد منيب، خاصة أن الأخير هو أساس تجربة منير بلا جدال، ولولاه ما كان ولا أصبح ولا أمسى منير، وكان الفلكلور النوبي هو أساس تلك التجربة، التي تحتاج إلى مجلدات لكتابتها، وأنتجا معا أكثر من 45 أغنية تقريبًا في 10 ألبومات، حتى بعد وفاة منيب استمر تلميذه على النهج نفسه وسار في الطريق المضمون.
هلّت "أحداث 2011" في مصر، بكل سَوْءاتها الاجتماعية والسياسية، وصفّق الجميع لأغنية "إزاي" لـ"الكينج"، وانهمرت الدماء من الأيادي تصفيقًا لهذه "الأعجوبة"، ومعها ازداد الحاجز بيني ومنير، لأنني على علم بأن "الأعجوبة" لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بـ"أحداث يناير"، ولكن تبنّتها الأحداث كمولودة لها عندما استقر منير على طرحها في هذا التوقيت لتشابه كلماتها مع حالة الشارع، أي إن التفكير كان "تجاريا بحتا" لمطرب يبحث عن هدف يحرزه في الوقت الضائع، والحقيقة كان له ما أراد وأحرز هدفا ذهبيا وأنهى المباراة وأغلق الاستاد على نفسه فقط خلال تلك الفترة.
انتظرت كثيرًا أن يخرج منير بأخلاق الملوك ليفصح عن سر الأغنية، التي ألهبت الحماس وتحولت إلى شعار في الميدان، لكنه للأسف لم يفعل إلا في 2014، وتحديدًا في النصف الثاني من هذا العام.
استحلال منير وغيره التراث والفلكلور له فوائد، منها إعادة تقديم أغنيات جميلة سقطت من أذهاننا، لكن بتوزيع عصري، بشرط أن يكون مقدمها أمينًا إذا كانت أغنية لم تمر على ذاكرتنا السمعية، ولعل نجوما كُثرا قدموا لنا بعضًا من الفلكلور أو التراث وكنا نقرأ على أغلفة ألبوماتهم بكل صراحة ووضوح أن أغنية كذا "رؤية فنية" أو "رؤية عصرية" ثم اسم الفنان صاحب الرؤية.. منير نفسه سبق وفعلها كثيرًا، بل فعلها في ألبوم من "أول لمسة"، وفي أغنية "يا حبيبي عود لي تاني"، ورغم أنها ليست من التراث، لكنه حرص على أن يشير إلى مؤلفها وملحنها ولم ينسبها إلى أي شخص، وبالتأكيد دفع رسومًا عنها إلى جمعية المؤلفين والملحنين.
أما في أغنية "للي" فقد أوهم أكرم حسني "الكينج" بأنها من ألحانه ومن كلماته، وإذا تجاوزنا عن "توارد الخواطر" في الكلمات شفاعة لأعمال أكرم السابقة الناجحة جدا، واعتبرنا أنه تأثر بها، فهو بالتأكيد أخطأ في حق نفسه عندما لم يُشِر إلى أنها من الفلكلور إلا بعد أن خرج علينا آخر ليدّعي أنها من كلماته وألحانه.. لماذا صمت كل هذه المدة ولم يتحدث إلا بعد صعوده إلى "طاولة الإعدام"؟
خضرة محمد خضر كانت كل أغانيها من التراث والفلكلور وغيرها كثيرات، بل وغنت اللحن نفسه الذي اقتبسه -وأقول اقتبس تأدبا فقط- أكرم حسني وقدمه لمنير وكأنه لحّنها، وتشاء الظروف أن يكون هناك مطرب فلكلور مصري آخر اسمه "أبو خميس" غنى اللحن نفسه عام 1996، أي العام الذي طرح فيه منير ألبوم "من أول لمسة"، هل نسَب أحدهما اللحن إلى نفسه يا أكرم؟ هل تجرّأ أحدهما على هذا الفعل؟
أرى أن منير عليه الاعتزال فنيًّا وترك الساحة وهو متربع عليها، بدلا من أن تجبره الظروف على الانسحاب اللا إرادي، فهو لم يقدم أي شيء طوال السنوات الأخيرة الماضية بشهادة محبيه ومريديه ومجاذيبه، الذين وصفوا أغنية "للي" بأنها "عودة لأغنيات منير التي يعرفونها"، إذًا حتى محبوه قالوها علانية، وأعتبر أن وصفه لمن هاجموه وأكرم حسني بأنهم "أعداء نجاح" هو أكبر دليل على رفضه الواقع وأكبر سند على ضرورة اعتزاله، على أن يظهر بين حين وآخر لتكون له طلّة.
أتمنى أن يتعلم "منير" من تجربة عمرو محمد محمود صاحب شركة "ديجيت"، التي أنتجت ألبوم "من أول لمسة"، الذي قرر رغم نجاح شركته الانسحاب من السوق والاكتفاء باستديو خاص للتلحين والتوزيع لنفسه ولهواة فقط، رغم أن تجربته في التلحين كانت قوية مع عمرو دياب في أغنية "بموت في حبك أنا"، ومع ذلك أعلن انسحابه دون أي عوائق مالية، فجدُّه كان أول مَن أدخل صناعة الأحذية لمصر بعد أن كان يحتكرها اليونانيون والإيطاليون، وكل هذه المسيرة التجارية بدأها جدّه بورشة في منطقة العتبة بوسط القاهرة قبل أن تتحول إلى سلسلة فروع لا يعرف عددها إلا أصحابها.
أتذكر أن صديقي طارق الحلواني كان يحب أحمد عدوية، الذي غنّى بدوره بعضًا من التراث، وإن اختار لنفسه خطًّا مختلفًا صمد حتى الآن في الاحتفاظ بنفسه، وبالتأكيد يحب أكرم حسني المطرب أحمد عدوية أيضًا ويستمع له، لكن رغم أن طارق وأكرم يتشابهان في أمور كثيرة مثل تقديم استقالتيهما من الشرطة واختيار عمل مختلف عن مجالهما ونجاحهما فيه، فطارق لم يفعل مثل أكرم.. كونوا إذًا مثل طارق!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة