جذبتُ أمي من ملابسها لتخرج من المطبخ مسرعة، متغاضيا دون قصد عن بصلة تتعذب على النار تنتظر عصير الطماطم لتروي ظمأها.
لوهلة اعتقدَتْ أمي المسكينة أنها ستواجه إحدى مصائبي، ودار بخلدها أمور معتادة: كسر إحدى فازات الورد، شرخ أسطوانة "بيك أب"، وثورة أبي عند عودته.
أمنيّتي كانت تُختصر في أن تلحق أمي ما يُعرض على التليفزيون الجديد، الذي اشتراه أبي مؤخرا، إذ ظهرت فتاة صغيرة تُذاع لها أغنية كُتب أسفلها اسم "أنغام".
أشترك مع أنغام في يوم المولد والشهر، وتأثرت مصر كثيرًا بولادتي، إذ خرجت مظاهرات في الشوارع، وفرضت الحكومة حظر التجوال، فيما أطلق الرئيس الراحل أنور السادات على هذا اليوم "انتفاضة الحرامية".
كأنّ بطل الحرب والسلام يبشّرني بما هو آتٍ في حياتي، فرفَع الدعم عن الخبز ليكون إشارة، ولكنها وصلت متأخرة، فيما رفض أبي قبل زواجه بشهر الاستماع إلى نصيحة عبد الحليم حافظ عندما قال له "لكن سماءك ممطرة وطريق مسدود".
للأسف وضع أبي كل تركيزه في شراء غرفة نوم، لكن الفرق الوحيد بيني وبين أنغام أنها أكبر مني بالطبع.
لم يكن لعرض الأغاني موعدٌ محدد خلال حقبة الثمانينيات، باستثناء برامج ترفيهية ظهرت لاحقا خلال التسعينيات، مثل برنامج "أماني وأغاني"، وكنت ومَن هم في سنّي ننتظر هذا البرنامج لأنه كالقطار، إنْ لم نلحقه سنُدندن "فات الميعاد"، ونكتفي بتنظير مراهقين حول ملابس المطرب في الأغنية المصوّرة، التي لم يشاهدها سوى المحظوظ منا العائد مبكرًا من مدرسته في سيارة والده الخاصة.
هيئة شَعر أنغام في أغنيتها كانت تشبه "تسريحة" سماح أنور في فيلم "حالة تلبّس"، وهو ما لفت نظري بشدة، وكان الفيلم طفرة في أفلام الحركة، خاصة مشهد قفزها من الشباك إلى حمام السباحة، أضف إلى ذلك خلفية موسيقية تُلهب الحماس، وما أن كسرت الورق -الذي كنا نعتقد أنه زجاج- صفّقنا جميعًا في السينما، وتمنينا أن تنجح في النجاة من الاغتصاب لتُبعد الموت عن أمها القعيدة، والتي هي أمها في الحقيقة، وأصبحت سماح أنور بطلة أسطورية لنا بفيلمها الذي طُرح بدور العرض بعد فترة قصيرة من "شريط" أنغام "في الركن البعيد الهادي".
أسنان أنغام غير المتساوية كانت السبب الرئيسي لسحْب أمي من مصنع الطعام، إذ لم نكن معتادين أن تكون للمطربة مثل هذه الأسنان "الغريبة"، لكنني أدركت بعد 8 سنوات أن أسنان الأنثى نقطة ضعفي ومن معايير الجمال، ولا أتنازل عن هذا المعيار إلا في استثناءات، لكن أنغام أصلحت ما أفسدته "شقاوة الطفولة" وأنفقت 80 ألف جنيه -حسب ما تم تداوله آنذاك- لتستبدل بأسنانها المكسّرة "صفّين لولي" برسمة "هوليوود سمايل"، لتكون أول مطربة مصرية تنفق هذا المبلغ "الخيالي" في ذلك الوقت على أسنانها.
نظرت أمي بامتعاض إلى التليفزيون بعد اكتشاف سر حماسي التافه، وقالت: "دي أنغام بنت محمد علي سليمان"، واتجهت إلى المطبخ كحمم بركانية تخترق الجبال، وما ذنبي ولم أكن أعلم مَن هي أنغام ولا مَن هو محمد علي سليمان؟!
لكن وفي أعلى درجات غضبي توجهت إلى التليفزيون لأضع بصمتي على ضبط الألوان فرحًا بالجهاز الجديد الذي اشتراه أبي ليُفرحنا به.
بعد طرح "شريط" أنغام الأول بـ10 سنوات تقريبًا، استضاف التليفزيون المصري طفلة اسمها "آمال مندور"، خلال إحدى حفلات قصور الثقافة، كانت سنُّها 14، وتستعد للالتحاق بالصف الثالث الإعدادي، وتحدثت عن نفسها وعن المطربين الذين تستمع إليهم، وكانت أنغام ضمن القائمة، إذ وصل عدد ألبوماتها وقت ظهور آمال مندور/ماهر إلى 13، وهو رقم تكرهه الشعوب العربية، والمصريون تحديدًا تشاؤمًا به، ويبدو أنه كان علامة لما سيحدث مستقبلا بين أنغام وآمال ماهر.
أنغام أكبر من آمال أيضًا، ويشترك ثلاثتُنا في يوم المولد بفرق شهر واحد، ولكنني أتميز عنهما بأنني صاحب "بُرجين"، لكن دون شُقق، إذ فشل والدي في تسجيلي يوم مولدي لاكتظاط الشوارع بالجماهير، ولم يجد أمامه سوى الانتظار لتسجيلي في يوم آخر أطلقت عليه جماهير أخرى في زمن تالٍ "جمعة الغضب"، دون أن يدرك مَن نزل المؤامرة التي تُحاك ضد الدولة المصرية، وحتى الآن لا يعرف كل أصدقائي تاريخ مولدي الحقيقي، فيما لا يعرف البعض الآخر التاريخ الرسمي، وهو أمر سعيت له بشدة رغم أنني لا أجد سببًا لهذا الغموض السطحي حتى الآن.
قابلتُ أنغام لأول مرة بتدخل قوي من الشاعر أمير طعيمة، الذي طلبتُ عونه، فيما خذلتُه بعد ذلك لتمسُّكي بكتابة كل حرف صرّحت به أنغام في الحوار.
ولأنني أعرف وأحفظ مزايا وعيوب برج الدلو والجدي، فكان من السهل عليَّ التعامل مع آمال ماهر عندما قابلتُها أيضًا أول مرة في شركة "مزيكا" بعد ذلك بسنوات، لكن كان لقائي معها في مطار القاهرة أكثر وُدًّا لعدم وجود صحفيين آخرين، فيما كانت تستعد للسفر من صالة كبار الزوّار، التي كنت أدخلها للمرة الأولى، وتعجّبتُ بشدة من استخدامها هذه الصالة قبل أن أكتشف فيما بعد "سر شويبس"، الذي مات الفنان المصري حسن عابدين دون أن يفصح عنه لأحد، بعد طرح أنغام ألبومها الأول.
الظهور الرسمي الأول لآمال ماهر كان في عهد الرئيس المصري الراحل مبارك، برعاية كاملة من الموسيقار المصري الكبير عمار الشريعي، في حضور وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف، والإعلامي حمدي الكنيسي، ونال صوتها إعجاب مبارك بشدة، وبعد إنهاء وصلتها اقترب صفوت الشريف خلسة من حمدي الكنيسي، ليعلن الأخير إهداء مبارك 5 آلاف جنيه للمطربة الشابة، ومبلغا عينيا للفرقة الموسيقية.
بعد انتهاء حواري مع أنغام في منزلها بمدينة الشروق، توجهت لمنزلي بحي مصر الجديدة آنذاك، وبدأت تفريغ الحوار، وهي مهمة صعبة لا أترك فيها حرفا أسمعه في التسجيل، وعندما وصلت إلى سؤال وجّهته لأنغام عن قيمة تعاقدها مع الشركة المنتجة صُدمت من الإجابة التي لم ألحظها أثناء الحوار، واتصلتُ بها فورا ونصحتُها بعدم التصريح مرة أخرى بهذا لأنه يهز مكانتها الفنية في السوق.
لم أكن يوما صديقا مقربا من آمال ماهر رغم تعدد اللقاءات الصحفية، فطبيعتي تحول دون دمج الصداقة في العمل، لتظل العلاقة المُثلى هي الصحفي والمصدر، لأن الصداقة والود المتصل يُحرجان الصحفيين مع مصادرهم عند نشر أي خبر سلبي، ولكنني تابعت مسيرتها الفنية ومراحل التحول من شبح أم كلثوم إلى مطربة لها "ستايل" خاص بها.
تدافع أنغام في أغانيها عن المرأة، وتُعلي من مكانتها، وللأمانة كان للشاعر أمير طعيمة دور كبير في هذا التوجه تكلّل في النهاية بوجود أنغام لسنوات في احتفاليات الأمم المتحدة بيوم المرأة في مصر، وكان "طعيمة" خير من يعبر بكلماته عن المرأة مع أنغام في هذه الاحتفاليات.
لم تكن هناك محركات بحث لأعرف تاريخ موسيقار في حجم محمد علي سليمان وإسهاماته الفنية، ولكنني عرفتُها بعد خلافات أنغام مع والدها وخروج كل منهما للحديث عن الآخر، ثم كانت شقيقتها "غنوة" الصغيرة التي لم تحقق حلمها ودخلت في خلافات أسرية مع أنغام أيضا، وانشغلت السوق لفترات بالبحث عن حقيقة محاولة الأخت الكبرى وقف القطار الفني للشقيقة الصغرى، قبل أن يقرر القدر، بعد سنوات، وقف قطار حياتها بالكامل.
اكتمل تفريغ الحوار وحان موعد إرساله إلى مدير مكتب مجلة عربية في مصر، طبقا لاتفاقنا المسبق، وتم التواصل مع المصور كريم نور، لتسلم الصور، وتم إرسالها إلى بيروت.
سألت أنغام بضعة أسئلة سياسية بسيطة غير عميقة، منها: "لماذا لم تغنِّ للحزب الوطني مثلما فعلت شيرين؟"، فأجابت بمنتهى الأريحية: "لأنه ليس الحزب الأمثل"، وهي إجابة كانت في مثل تلك الفترة عادية جدا ويُسمح بها في صحف المعارضة المصرية الأسبوعية، فما كان مني إلا أن تواصلت مع أنغام لأحصل منها على موافقة واضحة بنشر الجزء السياسي في صحيفة مصرية، ووافقت مشكورة ومرحّبة، وقالت: "اعمل اللي انت شايفه تسلم إيدك على الحوار في المجلة".
توجهت إلى الإعلامي الراحل وائل الإبراشي -رئيس تحرير صحيفة "صوت الأمة" المصرية آنذاك، والتي كنت أعمل بها حينها، وقدمت له الحوار وتصدر العنوان مانشيت العدد الأسبوعي.
كثر الحديث عن قصر آمال ماهر في الساحل الشمالي، الذي أسسته بمقتنيات من إيطاليا وإسبانيا، ثم انتقل الحديث إلى استديو فخم مجهز بأحدث المعدات في المعادي، ثم اتضح سر قاعة كبار الزوار في المطار، التي لم أخطُها مرة أخرى، لأنني لم أقابل آمال في المطار مجددا.
تليفزيون أبي الجديد سبّب لي "لوسة"، وسعدت كثيرا به وكنت ممتنا لهذه الخطوة التكنولوجية الحديثة، وتعلقت بشدة بهذا الصندوق الساحر منذ طفولتي، وكنت دائما ما أقضي أمامه ساعات طويلة حائرا بين القناتين الأولى والثانية، وكان ختام الإرسال من أبغض لحظات حياتي.
في صباح ذلك اليوم، تلقيت اتصالا في الساعة السادسة من رقم دولي، تحديدًا من بيروت، وما أن وضعت الهاتف المحمول على أذني حتى اخترق أذني سؤال واضح: "إنت جبت الكلام ده منين يا حاتم اللي في صوت الأمة؟"، فكانت الإجابة بهدوء: "دي إجابتك"، فأنكرت أنغام بشدة فتمسكت بهدوء مؤكدا وجود تسجيل، فقالت: "أنا مقولتش الكلام ده وهاكذبه في بيان رسمي.. الدنيا مقلوبة عليا".
كانت آمال تخطو خطواتها بشكل هادئ وتحقق ألبوماتها نجاحا تلو الآخر، ونجحت في أن يكون لها شكل موسيقي وأغنيات جريئة تُعاند الرجل، وأصبحت دائمة الظهور في المناسبات الرسمية الوطنية، فيما دخلت أنا في دوامة صدور بيان رسمي من أنغام بتكذيب الحوار المنشور في صحيفة "صوت الأمة"، جملة وتفصيلا، ولم أكن أدرك ما يحدث حتى وصل إليّ اتصال هاتفي من قناة "العربية"، وبعض القنوات المصرية، للتسجيل معي بعد نشر تكذيب أنغام نص الحوار، فما كان مني إلا أن نشرت الحوار صوتا في عدد من القنوات.
أشفق على أنغام مما تعرضت له حينها بسببي، فقد وصلَتْ إليها رسالة بمنعها من الغناء "بقرار من صفوت الشريف" بسبب "فجاجة التصريح"، حسب ما أخبرني صديق مقرب منها، فيما كنت أتعامل مع المانشيت باعتباره مثل غيره، مجرد مانشيت لن يقدم أو يؤخر لكنه يكمل حالة إعلامية.
خرجت أنغام وأكدت في حوار نشر على صفحة كاملة في صحيفة يومية كبيرة أن "مبارك أملنا الوحيد"، لكن للأسف كان السيف سبق العذل، ولم تسمع الجموع لنصيحة أنغام المضطرة، تماما كما لم يسمع أبي نصيحة عبد الحليم، وما هي إلا أشهر قليلة وخرج الشعب طيّب النية ليعبر عن غضبه من الأوضاع العامة، دون أن يدرك أن هناك مَن يقف بالمرصاد لهذه التحركات ليستغلها ويهدم الدولة المصرية، وبعدها طرحت أنغام أغنية "يناير" مواكبة للأحداث.
رحل أبي وأفسد الدهر التليفزيون، ولا أعلم حتى الآن لماذا ضحكت أنغام على توتير منذ أيام، لكن ما أحزنني أن شقيقي الأصغر أبلغني الأسبوع الماضي بأن التليفزيون الذي ذُبت فيه عشقا وكان سببا من أبي لإدخال السعادة عليّ، كان هدية من عمي بمناسبة ترقية والدي، فقد كان عمي، رحمه الله، مُسرفًا، ويحب إهداء أقاربه حتى وإن لم يكن معه أي احتياطي نقدي، والأصعب أن أبي لم يكن يسعى لإسعادي كما ظننت، لكن الأزمة الكبرى -من وجهة نظري- تكمن في أن أنغام، التي شاهدتها على تليفزيون أبي، الذي اشتراه عمي، يحجب نظرها غشاءٌ ما، فلا ترى أبعد من أصابع أقدامها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة