"رجل وثلاثة أيام".. ترنيمة للحياة من بطولة الموت
الفيلم يشكل دعوة إلى التفكير الجوهري في الوجود المستمر للموت حولنا من خلال حكاية المخرج المسرحي وممثل الدوبلاج مجد.
يقدم المخرج السوري جود سعيد في "رجل وثلاثة أيام" سينما من بصر وبصيرة؛ إذ ينشغل فيلمه بسؤال فلسفي عميق عن معنى الحياة والموت، ومن هو الحي فينا ومن الميت.
يبني سعيد حدوتة حكايته على فرضية مثيرة للاهتمام، مختصرها: إذا كانت الحياة علنية في تعاملها مع الموت "الحقيقي"، فإن هذا الأخير يعيد تشكيل حيواتنا من حيث لا ندري، حتى إنه قد يبث الروح فيما نظنه حيًّا فينا وحولنا.
ويشكل الفيلم دعوة إلى التفكير الجوهري في الوجود المستمر للموت حولنا، من خلال حكاية المخرج المسرحي وممثل الدوبلاج مجد الذي يغرق في الحياة حتى الثمالة، إلى أن يضطر لقضاء 3 أيام مع جثمان ابن خاله الشهيد "بيرم"، بعد أن يتعذر عليه نقله إلى بلدته حيث تنتظر العائلة لدفنه، وخلال أيام الإقامة الجبرية هذه لمجد الحي مع بيرم الميت، سيكون الموت هو الحقيقة الوحيدة وسط عبثية حيوات أبطال الحكاية، وسيكتشف المشاهد في نهايتها أن من يراهم أحياء في الفيلم هم بالواقع في حالة موت شخصي متعدد الوجوه.
يظهر الموت في فيلم "رجل وثلاثة أيام" على مستويات عدة، فشبح الموت الذي لا يغادر البشر في زمن الحرب، (الحرب السورية زمن الفيلم)، هو موجود كظاهرة شخصية وجماعية، فإلى جانب جثمان بيرم في حياة المخرج مجد، هناك من يرغب بالانتحار بعد أن عجز عن توفير طعام يأكله، رغم أنه مستعد ليصالح الحياة إذا ما منحته الأقدار دجاجة مشوية، ثمة امرأة تعمل في فرقة مجد المسرحية، ماتت روحها بانتظار حبيبها المعتقل، فما عادت تمانع ببيع جسدها لكل من يخبرها معلومة واحدة عنه، حياً كان أم ميتاً، وهناك في مجتمع الحكاية من يرغب بالموت بملء إرادته وينتظره، هو بائع الكتب الذي أعد لنفسه قبراً في حديقة المتحف الوطني وأوصى مجداً بدفنه هناك.
وإلى جانب أولئك الموتى-الأحياء، يعرفنا الفيلم أيضاً بحالة موت اجتماعي ينحو جود سعيد إلى تقديمها بنوع من التعبيرية، فحين يموت بائع الكتب ويهم صديقه مجد بدفنه، سيحمل جثمانه وسط نوم كل بائعي البسطات من حوله وتجاهلهم، وكأنهم جميعاً يتنحون عن الحياة لا عن موت صديقهم البائع، بانتظار القدر ذاته، وها هو المخرج العابث مجد نفسه يقيم في بيته حفلة برفقة أصدقائه، بينما يرقد جثمان الشهيد مغموراً بالثلج في غرفة وسط المكان ذاته، بينما يقدم رجل على الانتحار من الطابق الرابع على خلفية إعلان لمسرحية مجد التي تتحدث عن نساء يتشحن بالسواد في زمن الحرب، وفي كل مرة يختبر المشاهد وجهاً جديداً للحرب، وشكلاً لم يألفه للموت فيها.
وسط كل هؤلاء سيبدو أن الحي الوحيد فيهم هو بيرم الميت، وها هو إلى جانب ما يكشفه من حالات موت فيمن نفترضهم أحياء، يكشف لنا وللآخرين عن حالة الانفصام التي يعيشها مجد.
لقد أخبرتنا حوارات الفيلم وأحداثه مقدار هشاشة مجد الشخصية، وكيف يعيش حالة من النكران لماضيه وهو يحاول أن يؤدي أدوار البطولة، كذباً، وسط الناس من حوله، لكن جثمان الشهيد بيرم يضعه أمام اختبار حقيقي لا للتحلي بالشجاعة الحقيقية التي لطالما كانت مجرد قناع كاذب لهشاشته الحياتية، وإنما للتخلص من العبث الذي يغلف حياته أيضاً، وكأن الشهيد أراد أن يعيد مجداً إلى الحياة قبل أن يغادر هو إلى ديار الآخرة.
يتعثر مجد في نقل جثمان بيرم بعد أكثر من محاولة، فتتأخر التصاريح الرسمية لنقل الجثمان، ويغلق الطريق نحو المطار، كما تتعرض السيارة الذي تنقله لرصاص القنص، وكل تلك العقبات ستبدو أسباباً يتحجج مجد بها ليفعل ما كان يعتزم القيام به بالأساس، أي دفن الشهيد في دمشق وعدم نقله إلى بلدته، من دون أن يتعرض للوم أهله وأصدقائه على تقصيره في أداء الواجب تجاه ابن خاله الشهيد وعائلته.
إلا أن الميت بيرم سيعود ليفرض منطقه على الحي مجد، حيث يأخذ المخرج جود سعيد فيلمه من إطاره الواقعي إلى حد ما يشبه الحلم، وذلك عبر أكثر من مشهد بارع بدا فيه مجد كما لو أنه يستمع إلى مخاوفه وهو يتخيل الشهيد وقد نهض من موته ليحاسبه، قبل أن يرجوه دفنه في بلدته بين أهله، ومع نهوض الشهيد في تخيلات مجد ومخاوفه، ستنهض كل ذكريات الماضي التي لطالما حاول تجاهلها، لعله الجانب الطيب فيه، الأمر الذي يجبره على اتخاذ خيار أخلاقي، ليجد في نهاية المطاف السبيل إلى إيصال الجثمان إلى أهله.
وخلال أيام الثلاثة التي قضاها مع جثمان ابن خاله بيرم، وصولاً إلى الوقت الذي حمله فيه إلى بلدته، سيجد مجد الإجابة عن أسئلة حياته المهدورة بالعبث وهواجس البحث عن الشهرة ووهم البطولة، على نحو سيملأه اليقين في نهاية الحكاية بأن الشهيد بيرم هو من أعاده إلى البلدة وماضيه، وليس هو ما جاء به إليها.
يختار مخرج الفيلم جود سعيد أن يقدم هذه المعالجة الرصينة للحكاية بنوع من الكوميديا السوداء، هي كوميديا عما نعده حياة في زمن الحرب بالدرجة الأولى، حياة واحدة فقط، يقدمها الفيلم باحتمالات جديدة لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن القبض على معناها ما لم نتعامل مع شبح الموت المنتشر بكل مظاهره في حياتنا اليومية، وهنا تبدو واحدة من جماليات الفيلم.
جمالية الفيلم ستظهر أيضاً في التناقض بين طبيعة الأحداث التي يصورها والتي تبدو أحياناً غير قابلة للتصديق، وبين عمق تناوله للواقع، وروعة تجسيده من خلال الهرب إلى الخيال حيث الذكاء في نبش ذكريات الماضي ومحاكمة الحاضر، ومن خلال روح الدعابة التي تقول كلمتها بأسلوب لا يخلو من القسوة في معظم الأحيان.
ورغم أن ظاهر حكاية الفيلم وما خفي فيها يمنح دور البطولة للموت، فإن سحر السينما الخفي الخادع يجعل منه ترنيمة للحياة، رغم أنه موت.
تلك هي رؤية تحليلية للفيلم، وربما يتاح لنا في مقالات لاحقة مقاربة الفيلم نقدياً بالتركيز على المسائل الفنية فيه التي تتعلق بالشكل، والتكرار والتنوع في التعامل مع الكاميرا، والأساليب الجمالية والسينمائية للمخرج، فضلاً عن تعقب أداء الممثلين لأدوارهم.
"رجل وثلاثة أيام" من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا، بطولة: محمد الأحمد، ربا الحلبي، لما الحكيم، كرم الشعراني، مصطفى المصطفى، علا سعيد، حسن دوبا، وضيوف الشرف: عبدالمنعم عمايري، عبداللطيف عبدالحميد.
aXA6IDMuMTQ1LjYzLjE0OCA= جزيرة ام اند امز