نقول للسيد أردوغان: برافو، لقد برهنت على أنك أفضل من فهم إحدى أهم قواعد التعامل مع المسلمين: اجعلهم يصرخون حتى لا ينتبهوا إلى التفاصيل.
أخيراً، بعد طول عناد، وفي غمرة الأوهام التي تؤجج الأوهام، ودون مقدمات تثار ولا مبررات تُذكر، تقتنع شعوب العالم الإسلامي قاطبة بقرار قادتها الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي الأخير بإسطنبول، والقاضي بأن الوقت قد حان للاكتفاء بالقدس الشرقية حصراً كعاصمة لدولة فلسطين، تاركين بقية الأوهام للواهمين.
فوق ذلك، لا أحد احتج على أحد في تلك المسألة بالذات، وهو ما يعني في الحساب الأخير، بداية التطبيع الشعبي مع مبدأ تقسيم الأرض بين اليهود والعرب على قاعدة حدود الرابع من يونيو 1967، أي، بعبارة أوضح، القبول بـ“الشرعية الدولية”.
ذلك بالضبط ما نص عليه بيان اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في إسطنبول يوم 13 ديسمبر 2017، والذي جاء للرد- كما يُفترض- على قرار دونالد ترامب القاضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، علماً بأن الأمر لا يتعلق تحديداً بقرار جديد، وإنما بمجرد تنفيذ لقرار سبق اتخاذه قبل سنوات وأرجئ التنفيذ في العديد من المرات. المشكلة أن قرار ترامب، والذي هو مجرد تحصيل حاصل، لم يبيّن إلى حدود الساعة ما إذا كان يقصد القدس الغربية حصراً، أم يقصد أورشليم الكبرى بأسرها. فكيف جاء الرد في مستوى المضمون والصياغة؟
جاء الرد الذي قرره زعماء العالم الإسلامي قاطبة في مؤتمر إسطنبول، بصيغة مطالبة العالم بالاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين. لكن، ماذا تعني عبارة القدس الشرقية؟ ماذا تعني من حيث الدلالة السياسية؟ إنها تعني القبول بمبدأ تقسيم الأرض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبهذا النحو سيتم رسمياً إقبار “خيار شعبين اثنين في دولة واحدة” على منوال جنوب أفريقيا، وهو أكثر الخيارات عقلانية بالنظر إلى الوضع الجغرافي للأراضي المحتلة، غير أن العقلانية تحتاج إلى عقلانيين.
لقد راهن المتطرفون من الجانبين على مبدأ “إما كل شيء وإما لا شيء”، وهو الرهان الذي لم يترك من حل واقعي ينهي الصراع غير “تقسيم الكعكة على اثنين”. في كل الأحوال، وفي غياب رؤية تقدمية واضحة للقضية الفلسطينية فقد كان من الطبيعي أن يفرض خيار التقسيم نفسه في الأخير.
هل من عجب في أن تصبح إسطنبول اليوم المدينة الأولى في العالم من حيث عدد الرحلات الجوية من وإلى تل أبيب، ودون أن تتجرأ شعوب المنطقة على تخوين أردوغان؟ أليس هذا إنجازاً مبهراً بكل المقاييس؟ لذلك، لكل ذلك، لدينا كل الحق في أن نقول بكل لغات العالم الإسلامي: برافو السيد أردوغان
قبل سنوات، تعرض كل الذين آمنوا بالتقسيم للتخوين من طرف الشعوب والقيادات الشعبوية للشعوب، لكن، هذه المرة، هذه المرة بالذات، يكفي أن يأتي القرار تحت إشراف السلطان رجب طيب أردوغان حتى يتم ابتلاعه من طرف الشعوب المسلمة بيُسر وسهولة. ولعل الأمر لا يخلو من إنجاز كبير.
الآن، ليس لنا ما نقوله سوى أن نقول للسيد أردوغان: برافو يا أردوغان، لقد أنجزت المهمة المستحيلة بجدارة واقتدار، وبرهنت على أنك أفضل من فهم إحدى أهم قواعد التعامل مع المسلمين: اجعلهم يصرخون حتى لا ينتبهوا إلى التفاصيل.
فعلا، ليس ثمة من انتبه إلى التفاصيل سوى القليلين. والتفاصيل صريحة فصيحة في مستوى مضامين نص البيان:
نقرأ في البند الثالث من البيان الختامي لقمة إسطنبول ما يلي “نشدد على أنه لن يكون بالإمكان البتة التنازل عن طموح إقامة دولة فلسطين المستقلة وذات السيادة على أساس حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، باعتباره شرطاً لازماً لإحلال السلم والأمن في المنطقة”.
وفي البند السادس نقرأ ما يلي “ندعو جميع الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين التي تم إعلانها عام 1988 بالجزائر تجسيداً لرغبة أبناء الشعب الفلسطيني في أن يحيوا حياة حرة، إلى اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة؛ إذ أضحى اليوم الاعتراف بدولة فلسطين شرطاً أساسياً لتحقيق التوازن ولسيادة الحس السليم، ومنطق العقل في المنطقة في أعقاب التطورات الأخيرة. نؤكد اعترافنا بدولة فلسطين، وندعو العالم أجمع إلى الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة محتلة لدولة فلسطين”. هل ترك هذا الوضوح من باب لتأويلات أخرى؟
فعلاً، لقد تفوّه أردوغان في كلمة افتتاح المؤتمر بكل ما تحبّ الشعوب المسلمة سماعه، أرعد وأزبد وهدد وتوعد، بل، قبل ذلك، فقد أكد بأنه سينذر القوم ثلاثة أو خمسة أيام قبل أن يقطع العلاقة مع إسرائيل، لكن، قبل انتهاء المدة المحددة، قرر أن يجمع العالم الإسلامي لتمرير الموقف الذي بسببه اُتِّهم الكثيرون بالخيانة والعمالة: القبول بمبدأ التقسيم، بحيث تكلم نص القرار عن القدس الشرقية التي طالب بأن تكون عاصمة لدولة فلسطين.
وبالطبع صمت في المقابل عن القدس الغربية التي يحتمل أن تصير عاصمة لدولة إسرائيل. فهل من عجب في أن تصبح إسطنبول اليوم المدينة الأولى في العالم من حيث عدد الرحلات الجوية من وإلى تل أبيب، ودون أن تتجرأ شعوب المنطقة على تخوين أردوغان؟ أليس هذا إنجازاً مبهراً بكل المقاييس؟
لذلك، لكل ذلك، لدينا كل الحق في أن نقول بكل لغات العالم الإسلامي: برافو السيد أردوغان.
نقلا عن "العرب اللندنية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة