في مئوية ثورة 1919.. التاريخ يقف شاهدا بين منزل سعد زغلول وضريحه
المنزل والضريح يجسدان مراحل مختلفة من تاريخ مصر، ويشير البيت إلى الحب النادر الذي جمع بين الزعيم وزوجته التي احتفظت بكل شيء بعد وفاته
قبل أن يقرر جهاز التنسيق الحضاري في مصر مؤخرا وضع لافتة نحاسية على قصر قديم بشارع سعد زغلول على مقربة من مقر الحكومة، لم يكن الكثير من المصريين يدركون أن زعيم ثورتهم المباركة في 1919 سكن هذا القصر قبل أكثر من 100 عام، رغم وجود محطة للمترو تحمل اسمه يتردد عليها الآلاف يوميا.
إلى جوار المحطة يقف مبنى مهيب على الطراز الفرعوني يضم رفات الزعيم وزوجته أم المصريين صفية زغلول، ربما كان هو الأكثر شهرة لدى العامة الذين يعرفونه بـ"ضريح سعد" .
المسافة بين البيت والمقبرة لا تزيد عن 20 خطوة إلا أن الانتقال بين دار السكن ودار العودة يعني الكثير لتاريخ مصر والعالم العربي.
وهذا الأسبوع تنظم احتفالات شعبية ورسمية في ذكرى مرور 100 عام على اندلاع ثورة 1919 في مصر، وهي الثورة التي اندلعت بعد القبض على سعد زغلول وزعماء الوفد المصري الذين توجهوا لدار المعتمد البريطاني السير وينجت للمطالبة باستقلال مصر عقب حصولهم على توكيلات من الشعب المصري تمكنهم من تمثيله في مؤتمر الصلح في باريس، الذي انعقد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
وتحت تأثير الانتفاضة الشعبية التي عمت أنحاء مصر اضطرت بريطانيا للإفراج عن سعد وزملائه لكنها لم تتمكن من احتواء الثورة التي عمت البلاد وتحول معها سعد من محامٍ وسياسي مختلف عليه إلى زعيم أسطوري تنوعت صور تخليده عبر 100 عام، سواء عقب وفاته أو طوال حياته التي قضى أغلبها في البيت الذي يحمل اسم "بيت الأمة"
"العين الإخبارية" توجهت لزيارة البيت، وتجولت في أركانه التي تحمل العديد من الإشارات لتلك الحوادث الفارقة التي تحول فيها سعد باشا من سياسي عادي لزعيم ملك قلوب المصريين.
سكن سعد البيت في العام 1901 بعد أن اشترى قطعة الأرض بعد حصوله على أتعابه كمحام في قضية كبيرة، وفرت له المال الذي مكنه من بناء بيت يليق بزوجته صفية هانم ابنة مصطفى باشا فهمي، الذي كان رئيسا لنظارة مصر (الحكومة) لحوالي 14 عاما.
وكانت قصة زواج سعد الفلاح، الذي تمكن من الصعود اجتماعيا بفضل حصوله على تعليم جيد، من ابنة رئيس الحكومة الذي يعود لأصول تركية حدثا ملأ الدنيا وشغل الناس، فقد أراد سعد زغلول الذي تعلم في باريس شطرا من حياته وآمن بأفكار صديقه قاسم أمين عن تحرر المرأة، أراد زوجة تلائم طموحه كسياسي راغب في تغيير مجتمعه ودفعه لأفق تحرري.
كانت صفية شريكة هذا الكفاح الذي بدأه سعد منذ أن كان عضوا بالجمعية التشريعية حتى وصلت مصر معه لمحطة الثورة وكانت زوجته هي "أم المصريين" التي منحها الشعب هذا اللقب؛ لأنه لم يكن لديها أولاد فمنحها الشعب هذا اللقب الخالد بعد أن فتح أبواب بيته لانعقاد جلسات شباب الثورة الذين انتفضوا بعد نفي سعد.
اللافت أن المنزل نفسه أصبح "بيت الأمة" بعد واقعة طريفة، فقد حدث أثناء تأليف الوفد أن أثيرت مناقشات بين 4 من أعضاء الحزب الوطني، الذي كان ناشطا قبلها، وكان أحد أعضائه عنيفا في مهاجمة سعد الذي رد عليه: "كيف تهاجمني في بيتي؟" فرد الطرف الثاني واسمه محمد زكي: "إنه ليس بيتك لكنه بيت الأمة"، فراق مزاج سعد وسر لهذا الاسم.
ومنذ ذلك الحين أصبح البيت اسمه "بيت الأمة"، وتحول إلى متحف في العام 1946 عقب وفاة صفية هانم، وتم تجديده وافتتاحه للجمهور مرة أخرى فى 16 يناير/كانون الثاني عام 2003.
تقول الطكتورة إخلاص فواز مدير المتحف: إن المنزل يتكون من 3 طوابق، وتبلغ مساحته 3080 مترا مربعا، ويضم العديد من قطع الأثاث الفرنسي وبعضها يعود لطراز لويس الخامس عشر، إضافة لقطع الأثاث العربي مطعما بالعاج وفنون الأرابيسك.
وتشير إخلاص فواز إلى أن المتحف هو تجسيد جمالي لمراحل مختلفة من الثورة، ويشير إلى علاقة حب نادرة جمعت بين الزعيم وزوجته التي بفضل ثقافتها استطاعت الاحتفاظ بكل شيء يخص الزعيم، لاسيما الصور والأوراق واللوحات التشكيلية والتماثيل.
وداخل البيت هناك مقتنيات فنية مهمة موزعة على أركانه المختلفة بينها 12 لوحة زيتية لكبار الفنانين التشكيليين، ومنهم: يوسف كامل، ومحمود حسين، فضلا عن مستنسخات بحجم صغير للتماثيل التي نحتها له محمود مختار وهي الموزعة بين القاهرة والإسكندرية.
بالإضافة إلى ذلك هناك مقتنيات شخصية للزعيم الوطني الراحل، وتحف نادرة كان يعشقها، لعل أبرزها بدلة صيد من إمبراطور الحبشة.
وتشير المصادر إلى أن سعد كان يعتز بها بشكل خاص فهي سترة من الحرير تشبه ما كان يرتديه أمراء الأحباش في الحفلات الرسمية والتشريفات، وقد خصصت لها خزانة خاصة تعلق بها.
داخل غرفة المكتب المغطى بطبقة سميكة من الجوخ الأخضر توجد حافظة أوراق المذكرات التي كان يستعملها وأدوات الكتابة الخاصة به، ومن بينها الريشة التاريخية التي كان يكتب بها، وعليه نظارتان، إحداهما مكبرة والأخرى عادية.
وتوجد على المكتب أيضا "منشّة" من الخوص العادي ما زالت في مكانها حيث تركها سعد زغلول، في حين توجد بغرف تجهيز الملابس، بعض الملابس الرسمية التي كان يرتديها الباشا "العصي الأبنوس" التي كان يستعملها في تحركاته اليومية.
تحتوي غرفة المكتب على خزانة تضم مجموعة فاخرة من أدوات الكتابة، وقلم حبر أمريكيا أهدته إليه زوجته لكنه لم يستخدمه أبدا، ولا توجد قطعة في البيت تخلو من نحت بارز على الخشب أو النحاس تظهر تمثيلا للزعيم.
وفي الطريق للطابق العلوي يصعد الزائر عبر "سلم" أنيق تحيط به صور للباشا ولوحات فنية رائعة، في حين تستقبله غرفة تجهيز الملابس النسائية ولا تزال معلقة على مشاجبها فساتين الهانم الدالة على تحولات الذوق وتاريخ الأزياء في مصر والعالم.
غير أن غرفة النوم تبقى واحدة من علامات المنزل الفريدة، وفيها سريران كبيران من النحاس، وبجوارهما دولاب (خزانة صغيرة) عليه دورق مياه وكوب ما زالا في المكان الذي كانا عليه يوم لفظ سعد أنفاسه الأخيرة سنة 1927م.
وتشير مديرة المتحف إلى أن البيت هو تعبير مثالي عن نمط البيوتات الكبرى التي عاشت في مصر الملكية فهو يضم غرفتين للزينة والملابس، لعل أندر ما فيهما الملابس التي كان يرتديها سعد عندما تعرّض لمحاولة اغتيال في محطة مصر يوم 12 يوليو/تموز عام 1924، وهي عبارة عن قميص من الكتان، وبزّة من قطعتين من الصوف الرمادي المخطّط عليها بقعتان من دمائه.
وهناك حوضان لغسيل الوجه في كل غرفة، إضافة لغرفة استحمام وهي مصممة بشكل فريد، حيث توجد في أعلاها عند الشقف قباب صغيرة لتدوير البخار وتمرير الضوء الخفيف، وملحق بها غرفة صغيرة بسرير للتدفئة والقيام بالعلاج الطبيعي.
وقد تم ربط طابقي القصر بأسانسير صغير من طراز نادر ومزخرف لكنه يعاني من الإهمال البالغ ولا يخضع لأي عمليات ترميم.
وتأمل مديرة المتحف بأن تسهم احتفالات المئوية في لفت النظر المسؤولين للقيمة التاريخية والمعمارية للمبنى، وتراهن على أن تسهم جمعيات أهلية أو أحزاب على رأسها حزب الوفد في ترميم المقتنيات، حيث يفتقر المتحف لوسائل إضاءة حديثة أو لمخارج تهوية كما تعاني القطع الفنية والأثاث من تدهور بالغ في حالتها الفنية.
وتشير الدكتورة إخلاص فواز إلى ارتفاع معدلات أعداد زوار المتحف خلال هذا الشهر، بسبب الاهتمام الإعلامي باحتفالات المئوية لكنها تؤكد أن الأعداد لا تزال أقل من المتوقع.
وعلى بعد خطوات من المتحف توجد المقبرة التي تملك بدورها تاريخا فريدا يشير لدلالة ثورة 1919 في ذاكرة المصريين الذين يسمون المنطقة بأكملها "ضريح سعد"، وعلى بعد نصف كيلو من ميدان التحرير الشهير.
شيد الضريح الذي يتبع الآن محافظة القاهرة في العام 1931 ليدفن فيه زعيم الأمة.
ولأن الثورة كانت ترفع شعار نهضة مصر، وتعبر في جانب منها من فكرة الخلاص من الاحتلال الإنجليزي وهيمنة الأتراك العثمانيين على شؤون مصر فقد أراد أنصاره أن يكون ضريحه تجليا لفكرة البعث المستمدة من الطراز الفرعوني.
وعقب وفاته مباشرة اجتمعت الوزارة الجديدة في ذلك الوقت برئاسة عبدالخالق باشا ثروت، وقررت تخليد ذكرى الزعيم، وبناء ضريح ضخم يضم جثمانه على أن تتحمل الحكومة جميع النفقات وبدأ تنفيذ المشروع بإشراف المهندس المعماري الشهيد مصطفى فهمي.
وتقدر المساحة الإجمالية للمشروع بـ4815 مترا مربعا، أما الضريح فيحتل مساحة 650 مترا ويرتفع نحو 26 مترا على أعمدة من الرخام الجرانيت وحوائطه من الحجر، وللضريح بابان أحدهما من الخشب المكسو بالنحاس وارتفاعه 6 أمتار ونصف المتر، وهو نسخة طبق الأصل من الباب الآخر المطل على شارع الفلكي، وتغطى حوائط المبنى من الخارج والداخل بطبقة من الرخام الجرانيت بارتفاع 255 سم.
ويحاط الضريح بدرابزين من النحاس والحديد والكريتال جرى تصميمها على أشكال فرعونية وعلامات من الطيور وتصميمات زهرة اللوتس.
ودفن سعد باشا في مقبرة مؤقتة بمدافن الإمام الشافعي لحين اكتمال المبنى، وجرى ذلك في عهد وزارة إسماعيل باشا صدقي عام 1931، وكان من خصوم سعد زغلول، الذي اقترح تحويل الضريح إلى مقبرة كبرى تضم رفات كل الساسة والعظماء ولكن "أم المصريين" رفضت وأصرت على أن يكون الضريح خاصا بسعد فقط، وفضلت أن يظل جثمانه في مقابر الإمام الشافعي إلى أن تتغير الظروف السياسية وهو ما حدث بالفعل في عام 1936.
في ذلك العام تشكلت حكومة الوفد برئاسة مصطفى باشا النحاس، وطلبت أم المصريين نقل جثمان سعد إلى ضريحه أمام بيت الأمة، حيث كتبت مجلة "المصور" تفاصيل نقل الجثمان تحت عنوان "سعد يعود إلى ضريحه منتصرا"، وبعد 100 عام من الثورة يقطع المصريون المسافة ذاتها بين جلال القصر وهيبة الضريح.
aXA6IDMuMjMuMTAzLjIxNiA= جزيرة ام اند امز