من الممكن لرئيس المخابرات المكلف حديثا بتشكيل الحكومة الاستفادة من ملفاته التي بحوزته بحكم عمله الاستخباراتي
منذ سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003 ومنصب رئاسة الوزراء في العراق مثار تجاذب خارجي كبير، وداخلي أقل، فقد كانت الدولتان الأكثر تأثيرا في اختيار الشخصية المناسبة هما إيران والولايات المتحدة؛ فواشنطن وطهران وإن أبدتا عداء ظاهريا إلا أنّهما تجتمعان في كثير من النقاط داخل الساحة العراقية ومنها مسألة الشخصية التي يجب أن تكون في سدة الحكم.
نعم ثمة بعض التحركات الطفيفة للتمرد من سطوة هاتين الدولتين، ولكن لم تصل هذه المحاولات حدَّ إمكانية اختيار اسم رئيس الوزراء من دون الرجوع إلى الدور الكبير للدولتين الأكثر تدخلا وانتهاكا للأرض العراقية.
من حقّ البعض الاعتراض على الجزئية أعلاه، ولكن من أراد التأكد من حقيقة ما ذُكر في هذا المقال فعليه مراجعة ما حدث في الساعات الأخيرة قبيل اختيار مصطفى الكاظمي مرشحا لمنصب رئاسة الحكومة عقب انسحاب عدنان الزرفي الذي لم يُخف أن التدخلات الخارجية هي السبب في عدم مضيه نحو المنصب الأرفع في البلد النفطي، خاصة أن الأطراف الداخلية عرضت على الزرفي ما لم يكن يصل إليه لولا قضية تكليفه من قبل الرئيس العراقي برهم صالح، فالرجل تحصّل على عدة عروض من زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم منها رئاسة جهاز المخابرات وكذلك منصب نائب رئيس الوزراء.
بالنظر إلى الطريقة التي تم الإعلان فيها عن تكليف الكاظمي نجد عدة معطيات توحي بأن الرجل نال أكبر إجماع يحصل عليه رئيس وزراء خلال السنوات التي تلت سقوط النظام السابق
بالنظر إلى الطريقة التي تم الإعلان فيها عن تكليف الكاظمي نجد عدة معطيات توحي بأنّ الرجل نال أكبر إجماع يحصل عليه رئيس وزراء خلال السنوات التي تلت سقوط النظام السابق، وفي استعراض بسيط يمكن الاستنتاج بأنه لم يجتمع الفرقاء العراقيون على اسم مرشح لرئاسة الوزراء كما هم اليوم أمام اسم رجل المخابرات الهادئ، والسؤال: ما الثمن الذي سيدفعه الكاظمي للكتل السياسية؟
في واقع الأمر، لا يمكن التجرد من الواقع الطائفي والعرقي في العراق لأي مسؤول، خاصة من يتصدر مشهد تشكيل الحكومة، فمن المبالغة المطالبة بتشكيل حكومة مستقلين في ظل وجود برلمان مقسم ومجزّأ على أسس طائفية وأخرى عرقية، وعندها لا يمكن لأي رئيس وزراء نيل الثقة إن لم يرض الكتل السياسية الممثلة في البرلمان، وإلا سيكون مصيره الفشل حتى وإن مُررت حكومته.
من الممكن لرئيس المخابرات المكلف حديثا بتشكيل الحكومة الاستفادة من ملفاته التي بحوزته بحكم عمله الاستخباراتي، ووضع ذلك نقطة قوة تسانده في فرض بعض آرائه وليس كلّها في مسألة اختيار الأسماء للمناصب، خاصة أن لعاب أغلب القوى السياسية بات مكشوفا إلى حد كبير، فـ"تحالف سائرون" لا يخفي شديد اهتمامه بمنصب أمانة بغداد ورئاسة البنك المركزي وبعض الوزارات السيادية، أما "تيار الحكمة" فيريد تعويض نكسته في ظل حكومة عادل عبدالمهدي، ويضع نصب عينه الوزارة الأغنى وزارة النفط، ويسعى للخارجية ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
أما "ائتلاف النصر" الذي خسر منصب رئاسة الوزراء فجائزة ترضيته ستكون حتما كبيرة، فمن الممكن المضي برئيسه حيدر العبادي إلى منصب رفيع، ومنح الزرفي منصب رئيس جهاز المخابرات كما ذكر سابقا، لتبقى "القوى السنية" محافظة على وزارة الدفاع، ومنصب النائب الثاني لرئيس الوزراء بالإضافة لوزارات التجارة والتربية والزراعة.
يبقى أمام الكاظمي تحالف الفتح الطامح لمنصب نائب رئيس البرلمان ووزارة الداخلية، وسيتمكن من الوصول إليها في ظل حاجة الكاظمي لأصواته في البرلمان، وبالنسبة لائتلاف دولة القانون سيكون فرحا بجميع أعضائه إذا عاد زعيمه نوري المالكي إلى منصب نائب رئيس الجمهورية.
التحالف الكردستاني لن يكون بعيدا عن هذه المحاصصة، فبقاء وزارة المالية بيدهم في مقدمة أولوياتهم، ولن يتراجعوا عن مسألة النظر في المادة 140 وتفعيل قضية كركوك وضمها لإقليم كردستان.
هذا في الداخل، ولكن ثمة مهمة أكبر بكثير على رئيس الوزراء المكلف، وهي كيفية جمع نقيضين، فالرجل إلى وقت قريب "متهم" أو مشار إليه، وإن بطريقة غير مباشرة، بأنّه على صلة بالولايات المتحدة، وزوّدها ببعض المعلومات التي ساعدتها على تنفيذ بعض خططها العسكرية للتخلص من قاسم سليماني وأبومهدي المهندس، وهذا ما أشار إليه قيادي في مليشيا حزب الله العراقية لتعود وتنفي هي ذلك الاتهام.
ليس هذا فحسب، فبعض الأخبار تفيد بأنه الشخص المقرب لعلي شمخاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني الذي زار العراق مؤخرا، والتقى الكاظمي، ومع اشتداد التنافس بين العاصمتين المتنازعتين على العراق ونفطه سيكون الرئيس المكلف أمام مهمة صعبة للغاية، فلا يمكن للرجل أن يكون حليفا للولايات المتحدة وإيران في وقت واحد، لذلك ستصبح مسألة تشكيل الحكومة ونيلها الثقة، أسهل بكثير من إرضاء المكشّرين عن أنيابهم لنهب مزيد من خيرات العراق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة