
منذ آلاف السنين ظل سؤال واحد يتردد: لماذا يُربط القلب بالمشاعر، وبالحب تحديدًا، بينما الحقيقة العلمية تشير إلى أن المشاعر تنشأ داخل الدماغ؟
هذه الفجوة بين المعرفة الطبية الحديثة والموروث الثقافي أوجدت أسطورة كبرى جعلت من القلب بطلًا عاطفيًا لا يشعر.
المشاعر بطبيعتها جزء جوهري من الإنسان، بل هي وسيلة تطورية للبقاء. فالشعور بالخوف مثلًا، بما يرافقه من تسارع في ضربات القلب وارتفاع الضغط واستنفار التركيز، هو آلية دفاعية تجهزنا للامتحانات أو للهروب من الأخطار. وعلى الجانب الآخر، مشاعر الحب والفرح تسهم في بناء روابط اجتماعية قوية، وعلاقات عائلية وإنسانية تزيد من فرص استمرارنا.
لاحظ البشر منذ القدم أن ضربات قلوبهم تزداد حين يقعون في الحب أو يلتقون بالمحبوب، ومن هنا استحوذ الحب سريعاً على رمزية القلب باعتباره موضع التفكير والشعور والروح.
ورغم وضوح الأدلة العصبية والكيميائية على أن الدماغ هو المصدر الحقيقي للعاطفة، فقد استقر في وعينا أن القلب هو معقل الأحاسيس. فحين يستقبل الدماغ إشارات من البيئة المحيطة، يترجمها إلى استجابات عاطفية، ثم يرسل أوامره إلى أجهزة الجسم: الدورة الدموية، العضلات، الغدد الصماء، والجهاز العصبي المستقل. لذلك نشعر بالعاطفة جسديًا كما لو أنها تسكن أجسادنا، وهو ما انعكس بقوة في لغتنا واستعاراتنا اليومية.
لغة الجسد
لم يكن القلب وحده هو الذي حمل رمزية المشاعر عبر العصور، بل ارتبطت أعضاء أخرى من الجسد بالانفعالات الإنسانية. فالكلية مثلا ارتبطت في الموروثات القديمة بالشجاعة والقوة الداخلية، حتى أن بعض النصوص الدينية القديمة وصفتها بمقر الضمير والإخلاص. أما الكبد، فقد اعتُبر في الحضارات الشرقية مركزاً للغضب والطاقة الحيوية، بينما ربطت المعدة والقولون بالقلق والتوتر، إذ يشعر الإنسان بانقباض أو ألم عند الخوف أو الحزن.
وفي التراث الصيني، ارتبطت كل أعضاء الجسد بمشاعر محددة؛ فالكبد مرآة الغضب، والرئتان تعبير عن الحزن، والطحال مرتبط بالتفكير المفرط والقلق. هذه التصورات، وإن اختلفت بين الثقافات، تكشف عن وعي عميق بأن الجسد ليس مجرد آلة بيولوجية، بل مرآة دقيقة لحالة الإنسان النفسية والعاطفية.
لكن منذ القدم، احتل القلب موقع الصدارة. نقول "انكسر القلب"، "قاسي القلب"، "من كل القلب"، "طيّب القلب"، ونضيف إلى ذلك عبارات مثل "كلماته خرجت من القلب لتدخل القلب". هذه الاستعارات أصبحت عالمية، فحتى إن التقى شخصان لا يتحدثان لغة واحدة، فإن الإشارة باليد إلى الصدر تكفي للتعبير عن الحب أو الحزن.
الكاتب الساخر أحمد رجب تناول هذه القضية بذكاء، عندما تهكم على المطربين والشعراء الذين جعلوا من القلب بطلًا رومانسيًا، في حين أن العلم يراه مجرد مضخة تضخ الدم. اقترح رجب ساخرًا أن نغني "أنا كظري إليك ميال" بدلًا من "أنا قلبي إليك ميال"، إشارة إلى الغدة الكظرية المسؤولة عن إفراز هرمونات المشاعر.
ورغم سخرية رجب، إلا أن كلامه ينسجم مع العلم: القلب لا يشعر بذاته، لكنه يتأثر بما يُفرز في الجسم من هرمونات وناقلات عصبية. فهو شاشة تعرض نتائج عمل الدماغ والغدد الصماء.
ومن أقدم الشواهد على هذا التصور لوحة فرنسية من القرن الثالث عشر تُظهر رجلاً يقدم قلباً يشبه شكله الحالي لامرأة أثناء اعترافه بمحبته، ومنذ تلك اللحظة بدأ القلب يتجذر رمزاً للعاطفة في الفن والثقافة، قبل أن يتسع حضوره في المنتجات الدنيوية مثل أوراق اللعب، ليصل في القرن السابع عشر إلى ذروة ارتباطه بالحب مع ظهور يوم "الفالنتاين".
والمثير أن هذه التحولات الرمزية جاءت في الوقت نفسه الذي كان فيه العلم يكشف بدقة عن وظيفة القلب كعضو يضخ الدم في الجسد، لتتعايش صورتان متوازيتان لا تطغى إحداهما على الأخرى: قلب مادي يمنح الحياة، وقلب رمزي يمنح المعنى.
القلب بوابة الخلود
في الفكر الصيني القديم، يتجاوز القلب مجرد كونه عضواً نابضاً بالدم، ليصبح محور الإدراك والتفكير والروح معاً. يُطلق عليه "شين 心"، وهو مصطلح يجمع بين معنى القلب المادي والعقل الواعي والبعد الروحي. فالصينيون لم يفصلوا بين ما نعتبره اليوم "عقلاً" و"قلباً"، بل رأوا أن مركز الوعي والقدرة على التفكير والإدراك يكمن في هذا الكيان المتكامل. ومن هنا، ارتبط القلب بالانفتاح والرحمة، كما تعكسه الحكمة الصينية الشهيرة: "القلوب الواسعة تحتضن الجميع".
أما في الطب الصيني التقليدي، فإن القلب يرتبط بعنصر النار في نظرية العناصر الخمسة، ويُعد مسؤولاً عن تدفق الدم والطاقة (التشي) في الجسد، ليغذي الأعضاء ويحافظ على توازنها. ويُعتقد أن أكثر أوقات نشاطه تكون بين الساعة الحادية عشرة صباحاً والواحدة ظهراً، حيث يُنصح بتناول الغداء لدعم طاقته الحيوية. وبجانب هذه الوظائف الجسدية، ظل "شين" رمزاً للانفتاح والتسامح، وارتبط أيضاً بالود والمشاعر الدافئة، وإن كان تركيز الثقافة الصينية يميل إلى إبراز دوره العقلي والفكري أكثر من الرومانسي العاطفي كما في ثقافات أخرى.
عند المصري القديم لم يكن القلب مجرد عضو بيولوجي ينبض داخل الجسد، بل كان جوهر الروح وعصب الوجود. أطلقوا عليه اسم "إب" أو "إيب" في لغتهم، واعتقدوا أن هذا القلب المجازي يتشكل من قطرة دم تنبض في رحم الأم قبل ميلاد الطفل. ومنذ تلك اللحظة الأولى، ارتبط القلب بالكيان الإنساني كله؛ بالعاطفة والإرادة والتفكر والنية.
تجسد هذا الاعتقاد في لغتهم اليومية، إذ كانت كلمة "إب" تدخل في تعبيرات تحمل أبعادا وجدانية عميقة؛ مثل "عاوت إب" أي السعادة (اتساع القلب)، و"خاك إب" أي المبعدة (اقتطاع من القلب). وقد أشار عالم المصريات واليس بادج إلى أن الكلمة نُطقت قديما "آب".
أما في الديانة المصرية القديمة، كان للقلب دور مركزي في رحلة الإنسان إلى العالم الآخر. فقد آمن المصريون أن القلب يظل حيا بعد الموت، شاهدا على حياة صاحبه ومدافعا أو متهما له. وفي مشهد "وزن القلب" الشهير من كتاب الموتى، يظهر أنوبيس وهو يضع القلب في كفة مقابل ريشة ماعت، رمز الحق والعدالة. فإذا كان القلب خفيفا بوزن الريشة، نجا صاحبه ونال حياة أبدية. أما إذا أثقلته الأفعال، ابتلعه الوحش المفزع "عاميت"، لينتهي وجود صاحبه إلى العدم.
أما في الفلسفة اليونانية، فرأى الفيلسوف الإغريقي أرسطو أن القلب هو موضع التفكير والذكاء والمشاعر، بل اعتبره المصدر الأول لكل ما يدور في ذهن الإنسان. هذا التصور يجعلنا نلحظ تشابهاً كبيراً بين نظرته للقلب وما نراه اليوم في وظائف المخ، إلا أن أرسطو قلب المعادلة؛ فالمخ – في نظره – مجرد عضو هامشي لا دور له سوى تبريد القلب وتهويته، إذ ترتفع حرارته مع الانفعال والتفكير. وحتى الرئتان لم يكن لهما عنده سوى وظيفة المروحة التي تمنح القلب بعض البرودة ليستمر في أداء دوره العقلي والعاطفي.
ومع مرور الزمن، تسربت هذه التصورات إلى الديانات. في العهد القديم اعتُبر القلب موطن الحزن والفرح، وفي العهد الجديد مصدر الكلام، وفي الإسلام جاء ذكر القلب مقرًا للعقل والفهم: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
لكن استخدام القلب في النصوص لم يكن إلا تعبيرًا مجازيًا عن الجوهر والمركز واللب، وهي دلالات لغوية سبقت العلم الحديث. غير أن الإنسان القديم لم يمتلك أدوات ليفصل بين الرمز والمجاز.
العلم يقرأ خريطة المشاعر
مع تطور البحث العلمي، بدأت التجارب تكشف عن الرابط بين الأحاسيس والمظاهر الجسدية. إحدى الدراسات المنشورة في مجلة PNAS اختبرت نحو 700 شخص من ثقافات مختلفة. طُلب منهم تحديد المناطق الجسدية التي تتنشط عند اختبار مشاعر معينة عبر كلمات وصور وأفلام.
النتائج رسمت "خريطة عاطفية" للجسد: الاكتئاب يضعف الأطراف، الكبرياء ينشط الصدر والرأس، السعادة تُضيء الجسم كله خصوصًا الصدر والذراعين، الغضب يرفع حرارة الجزء العلوي، الخجل يزيد حرارة الوجه ويخفض نشاط الأطراف، والحب يثير نشاطًا لافتًا في الوجه والرقبة والصدر والبطن والحوض.
وتكتمل الصورة بالأحاسيس الجسدية الداخلية، مثل الوخز الذي يرتبط بالتوتر أو الإثارة، والضيق الذي يعكس ضغطاً نفسياً، والدُفء الذي يجلب الاسترخاء والراحة، والثقل الذي يرافق الحزن أو التعب، والرفرفة في البطن التي تتصل عادة بالعصبية أو الحماس. هكذا يصبح الجسد كله ساحة تعبيرية صامتة، لكنه في الوقت نفسه أكثر بلاغة من آلاف الكلمات.
هذه الخرائط أثبتت أن هناك لغة جسدية عالمية للمشاعر، لا ترتبط بثقافة أو لغة بعينها، بل تنبع من طبيعة الإنسان. وهو ما يفسر بقاء القلب في مركز الاستعارات، لأنه يتأثر مباشرة بهذه الانفعالات، فيرتجف أو يضطرب.
لماذا يخفق القلب إذن؟
الإجابة تكمن في قنوات الاتصال الأربع بين القلب والدماغ: الشبكات العصبية، الإشارات الهرمونية، الحقول الكهرومغناطيسية، والروابط الفيزيوحيوية. هذه الروابط تجعل القلب يتجاوب مع أي انفعال، وكأنه شاشة تعرض فيلمًا أنتجه الدماغ.
بل إن الدراسات الحديثة أثبتت أن المجال الكهرومغناطيسي للقلب يمتد حتى مسافة خمسة أقدام، ويمكن أن يتأثر به دماغ شخص آخر قريب. تخيل لقاء شاب وفتاة، يزداد خفقان قلبه، فيؤثر مجاله الكهرومغناطيسي على دماغها، فتزداد مشاعرها هي الأخرى، ويخفق قلبها بدورها.
العلم الحديث يؤكد أن مصدر المشاعر هو الجهاز العصبي مع الغدد الصماء. الدماغ ينتج النواقل العصبية مثل الدوبامين المسبب للبهجة، والفينيل إثيلامين الموجود في الشوكولاتة، والإندورفين الذي يطيل لحظات اللقاء العاطفي. أما الغدد فتفرز هرمونات كالفازوبرسين المسؤول عن الغيرة، والجريلين المساعد على الاسترخاء.
هذه المواد الكيميائية تنتشر في الدم وتؤثر على الجسد كله، مسببة أعراضًا كاضطراب ضربات القلب، رعشة الأطراف، قشعريرة الجلد، وتورد الخدين. أي أن القلب يتلقى النتائج، لكنه ليس مصدرها.
فالقلب لم يكن يومًا عضوًا للشعور، بل صار رمزًا لغويًا وثقافيًا وفنيًا. بينما الواقع العلمي يضع الدماغ والغدد الصماء في موضع الفاعل الأول للعاطفة. ومع ذلك، يظل القلب في وعينا الجماعي سيد المشاعر، لأنه الأكثر صدقًا في التعبير عن ارتداداتها الجسدية.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMzUg جزيرة ام اند امز