بالصور.."بين القصرين" شارع من زمن نجيب محفوظ
تحولات كثيرة شهدها "بين القصرين" الذي تحولت تسميته إلى شارع "المُعز"، وهو المكان العبق الذي وجد فيه الأديب العالمي نجيب محفوظ الكثير من السحر الذي نفذ في أغلب أعماله لاسيما رواية "بين القصرين" إحدى أضلاع ثلاثيته الشهيرة.
"بين القصرين" سابقًا.."شارع المُعز" حاليا.. أوجز بطاقة تعارف تصف واحدًا من أهم شوارع القاهرة التاريخية بمنطقة "الحسين" التي ولد و تربى فيها الأديب العالمي الكبير نجيب محفوظ .
لم تمر زوايا وشوارع هذه المنطقة في مخيلة "محفوظ" مرور الكرام، فقد نسج منها مادة أدبية يتحاكى عنها العالم حتى بعد رحيله.
"بين القصرين"، أحد أضلاع ثلاثيته الشهيرة، و الجزء الأول منها الذي يحكي قصة أسرة من الطبقة الوسطى، تعيش في حي شعبي من أحياء القاهرة في فترة ما قبل وأثناء ثورة 1919، يحكمها أب "متشدد" ذو شخصية قوية، حتى أن أحمد سيد عبد الجواد لم يقف عند حدود صفحات الرواية، بل أصبح أشبه بشخصيات الأساطير التي اقتحمت الواقع بقوة، وأصبح "سي السيد" النموذج الذي يوصف به الرجل قوي الشخصية وفقا للثقافة العربية.
كثير من معالم المنطقة تبدلت والأكثر منها مازال يحتفظ بملامحه التي وصفها الأديب الراحل نجيب محفوظ في ثلاثيته و تحديدا "بين القصرين"، واسم الشارع الذي تحول بمرور الزمن إلى "شارع المعز"، و اختفاء "سمكان البيوت" في جزء كبير من الشارع تبدأ من قبة نجم الدين أيوب و تنتهي عند باب الفتوح، فهي أشبه بالمتحف، وتم تسجيلها كـ"أثر".
من بين تلك المعالم التي مازالت قائمة، تلك المشربيات أو"النوافذ الخشبية" التي كانت تطل منها بطلات الرواية قائمة حتى الآن، ومازالت مآذن قلاوون و برقوق وغيرها من المساجد تقف شامخة، شاهدة على تاريخ مصر القديمة تسر الناظرين إليها من الزوار و السائحين في العصر الحديث، هذه المآذن التي كانت تضيئ بمصابيحها الظلام الدامس في حارات و زقاق رواية "بين القصرين" ليست مجرد مساجد، بل قطعا أثرية داخل منطقة تاريخية عظيمة، هي الآن في 2016 ضمن خطة تطوير القاهرة التاريخية التي بدأت مصر تنفيذها منذ أكثر من عام.
دمجًا مُريحًا تشعر به بمجرد أن تطأ قدمك أرض "بين القصرين"، فبمجرد أن تدخل منطقة الحسين وبدون أن تشعر تجد نفسك في "خان الخليلي" و ببساطة تأخذك قدماك إلى شارع الصاغة ثم قبة نجم الدين و شارع المساجد و المدارس "المعز" الذي ينتهي بباب الفتوح، هذه المنطقة و تحديدا التي تبدأ عند "الصاغة" سميت في الماضي "النحاسين"، وهي المنطقة التي دارت فيها بشكل أساسي أحداث رواية "بين القصرين"، وكان بها "دكان" أحمد سيد عبد الجواد بطل الرواية ، وهي نفس المنطقة التي تضم المنزل الذي دارت فيه أحداث العمل الأدبي الشهير.
كذلك لازالت مدرسة خليل أغا على مسيرة دقيقة واحدة من الحسين، وهي المدرسة التي كان يدرس بها "كمال" أحد أبطال رواية بين القصرين.
"قصة القصرين"
أما "القصرين" اللذان اختفت معالمهما قبل زمن الرواية التي حملت إسمهما، كانت لهما قصة أيضا تعود لعصر الدولة الفاطمية، حيث بني الخليفة جوهر الصقلي قصرين، الأول على جانبه الشرقي و خصصه للخليفة المعز وعرف باسم " القصر الشرقي الكبير " وآخر أمامه المعز الثاني "العزيز بالله نزار بن المعز" عرف باسم "القصر الغربي الصغير".
وظل الحال حتى قضى صلاح الدين الأيوبي على الدولة الفاطمية في مصر واتخذ هو وأمراء دولته القصر الكبير مقرًا لحكم دولتهم إلى أن تم بناء قلعة الجبل فوق جبل المقطم، ومنذ ذلك الحين تُرِك القصر الكبير مهملاً ، و اليوم تحل محله قبة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وعدد من المدارس الفاطمية بينها "الظاهرية" و أخرى تحولت لـ"متحف النسيج المصري" وهذه المنطقة برمنها ضمن شارع المساجد الكبير "المعز"، بينما موقع القصر الصغير اليوم يحتله مسجد الحسين وخان الخليلي بامتداهم حتى موقع القصر الكبير.
عرفت المنطقة الواقعة بين القصر الشرقي والقصر الغربي باسم "بين القصرين"، وكانت مسرحاً للاحتفالات والمواكب الدينية والعسكرية .
لخص شارع المعز قصة القاهرة منذ تأسيسها إلى الآن، فقد تجسدت فيه جميع مظاهر الحضارة الإسلامية بدءاً من العصر الفاطمي مروراً بالعصر الأيوبي ثم عصر المماليك البحرية ثم الجركسية ثم العثمانية.
ولأن الشارع كان مقراً للصفوة الحاكمة فقد غلبت عليه أنشطة الحياة الأرستقراطية، ولم يكن مسموحاً لأهالي القاهرة من العوام أن يتجولوا فيه وفى القاهرة عموماً بجميع الأوقات، لكن الطفرة الفكرية والعلمية الحقيقية حدثت منذ تبنى الخلفاء الفاطميون مشروعاً ثقافياً عالمياً بإنشائهم المكتبات المجمعة التي احتضنت سائر العلوم والفنون والآداب وأشهرها مكتبة "دار الحكمة"، فضلا على مكتبة "القصر الشرقي" التي حوت أربعون خزانة ضمت أكثر من مليون وستمائة ألف مجلد في سائر العلوم ، وكان الخليفة العزيز بالله يهتم بنفسه بالمكتبة ويتردد عليها ويزودها بالمؤلفات وتعتبر هذه المكتبة من عجائب الدنيا .
الأمر اختلف تماما الآن، فالمكان برمته بات "مُتحفا مفتوحا" للزوار من جميع بلدان العالم، فضلا على المصريين، و يحرص الجميع على تسجيل لحظاتهم الممتعة في هذا المكان التاريخي بالصوت والصورة.
شارع المعز كان و ما زال له نكهته الخاصة جدا في شهر رمضان، فهو الآن مزارا رمضانيا رئيسيا، موقعا مميزا لتناول وجبة الفطور والسحور، والاستمتاع بالمعالم الأثرية الساحرة التي تتجسد في جنباته من مساجد و مآذن و أسواق قديمة، فهو يضم مزارات بيت السحيمي "أقدم بيت عثماني"، كذلك بيت "الست وسيلة"، و"بيت الهراوي"، وقصر "باشتاك"، وفي الماضي كان الفاطميون يستقبلون الشهر الكريم بموكب المعز الذي يقطع الشارع من أوله إلى أخره ويوزع الصدقات، في موكب يضم رجال الدولة ويبلغ ذروته فى البهرجة.
أسواق بين القصريين
حسب المؤرخ العريق "المقريزي"، بين القصرين كان به 12 ألف "حانوت" لتجارة الأقمشة والسجاجيد والعطارة والصاغة، وللمقريزي مقولة شهيرة بهذا الشأن، حيث قال إن هذه المنطقة بها أكبر أسواق الدنيا.
ولعل هذا يبدو واضحا في أحداث الرواية الشهيرة لنجيب محفوظ، بل إن بطل الرواية كان يمتلك دكانا ضمن هذا السوق، ولا زال شارع المعز كما يطلق عليه الآن مركزاً تجارياً وسوق كبير يزدحم بالمارة والزائرين من كل مكان.
وكان "باب الفتوح" أوَّل أسواق بين القصرين من جهة الشمال وكان مخصصاً لبيع اللحوم والخضراوات، وهو أمر يتناسب مع وضعه الجغرافي من ناحية أنه أول ما يصادف تجار المواشي والخضروات القادمين من الدلتا بالشمال ولم يبق منه اليوم سوى تجارة الليمون والزيتون وبهما صار يعرف اليوم.
ويلي ذلك في اتجاه الجنوب سوق المرحلين، وكانت تباع به لوازم تجهيز الجمال للسفر، وخاصة في موسم الحج ثم سوق الرواسين، وهو خاص ببيع رؤوس الحيوانات المطبوخة، ومن بعده سوق حارة برجوان، وهو سوق القاهرة في العصر الفاطمي الذي عني الحاكم بأمر الله بتنظيمه وتزويده بالإضاءة الليلية.
يلي ذلك سوق الشماعين، الذي يبدأ عند جامع الأقمر، ومخصص لبيع الشموع الكبيرة وكان يرتدي حلة من الضياء في المواسم والأعياد، يليه سوق الدجاجين لبيع كافة أنواع الطيور وأيضاً العصافير ، التي كانت تباع للأطفال مقابل فلس لكل عصفور ليقوموا بعتقها من محبسها، لأنها حسب الاعتقاد السائد تسبح بحمد الله فمن أعتقها دخل الجنة.
أما سوق النحاسين أو شارع النحاسين الذي كان أحد المواقع التي جرت فيها أحداث رواية "بين القصرين" لنجيب محفوظ، تحول كما سبق ذكره إلى "شارع الصاغة"، ويقع بالمنطقة التالية مباشرة لسوق القفيصات باتجاه الشمال، و عندما انتقلت تجارة النحاس إلى المنطقة القريبة من حارة الصالحية شرقاً أصبحت هذه المنطقة معروفة باسم سوق الصاغة القديم، وهي إلى اليوم عامرة بمحلات الصاغة التي تتمدد شرقاً باتجاه خان الخليلي.
يحظى شارع بين القصرين اليوم بعناية مشروع إحياء القاهرة التاريخية الذي يشمل الحفاظ على آثار الشارع، التي لن تمس هذه الأسواق بحال من الأحوال.
وكان وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني بذل جهدًا ضخمًا لترميم أثار الشارع التاريخي وتم تطوير منطقته بعد تهالكها بسبب الإهمال حتى أصبح لائقًا بمكانة مصر التاريخية، وتم ضمه لقائمة مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
ويبقى شارع المعز "بين القصرين" سابقا، أهم مناطق القاهرة الإسلامية التي تحظى بسمعة عالمية وتعد أحد المقاصد الرئيسية للسائحين والفنانين حول العالم.