الناتو والفضاء.. منطقة العمليات الاستراتيجية الخامسة
من شأن عسكرة الفضاء أن تخلق صراعا عالميا محتدما تحدد نتائجه هيكل وموازين القوى الدولية
أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) ينس ستولتنبرج أن وزراء خارجية الدول الأعضاء تبنوا قرارا يقضي باعتبار الفضاء منطقة عمليات استراتيجية، بعد كلٍّ من الجو، والأرض، والبحر، والفضاء السيبراني. وقد جاء هذا الإعلان خلال مؤتمرٍ صحفيٍ عقده عقب انتهاء اجتماع في بروكسل.
ويثير هذا الإعلان إشكالية كبرى تتصل بتطبيق معاهدة الدفاع المشترك على الفضاء، وتحديدًا نص المادة الخامسة التي تنص على أن الهجوم على أحد الحلفاء يعد هجومًا على الجميع. وعلى الرغم من صعوبة الجزم بمحددات ذلك وإمكانية تطبيقه في الوقت الراهن، فإن ذلك من شأنه أن يثير نقاشًا محتدمًا بين دول الحلف في المستقبل القريب.
أهداف متعددة
أرجع الناتو تلك الخطوة لأسبابٍ دفاعيةٍ بحتةٍ، بما يتفق مع أحكام القانون الدولي، وسط مخاوفٍ من تزايد عسكرة الفضاء، وبخاصةٍ في ظل وجود ما يزيد على (2000) قمر صناعي، يتبع نصفها دول الحلف.
ومن ثمَّ، لا ينوي الناتو نشر أسلحةٍ في الفضاء الكوني أو تطوير قدراته الفضائية أو تسليح الفضاء، غير أنه يسعى -في المقابل- إلى التكيف مع التحديات الخارجية الجديدة والتهديدات الهجينة من ناحية، والتأكد من اتساق الفضاء مع مهامه وعملياته المدنية والعسكرية من ناحيةٍ أخرى، وتأمين المعلومات التي تنقلها الأقمار الصناعية "بجانب الاتصالات، والملاحة، والإنذار المبكر، والاستطلاعات البيئية" من ناحيةٍ ثالثة.
وفي هذا السياق، يتمثل هدف الناتو في تطوير التخطيط العسكري، ومواجهة مواطن ضعفه، والاستفادة من القدرات الحالية والمستقبلية، وضمان الأمن الأوروبي، والحفاظ على وحدته وتعزيزها، وضمان نجاح مهامه. ويمكن فهم قرار الناتو بالنظر إلى قدرة أعدائه العسكريين الغربيين على التشويش على الأقمار الصناعية.
فكما يُستخدم الفضاء في الحياة اليومية للأغراض السلمية، يمكن أن يستخدم أيضًا وفي الاستخدامات القسرية. ويتخوف الناتو من إمكانية تشويش الأقمار الصناعية واختراقها وتسليحها؛ إذ يمكن للأسلحة المضادة للأقمار الصناعية أن تشل الاتصالات والخدمات الأخرى، مثل: السفر، والتنبؤات الجوية، والخدمات المصرفية، وغيرها.
ويعد الفضاء ضرورةً للحلف من أجل الردع وتأمين دفاعاته، بما في ذلك القدرة على التنقل، وجمع المعلومات الاستخبارية، والكشف عن إطلاق الصواريخ. ويسمح ذلك لمخططي الناتو بتقديم طلبٍ للحلفاء لتطوير القدرات وتقديم الخدمات، مثل: الاتصالات، والملاحة، والبيانات، وغيرها.
وعليه، يتماشى الإعلان إلى حدٍّ كبيرٍ مع تفكير الحكومة الأمريكية والفرنسية الحالي؛ فقد تكررت الاتهامات الفرنسية لروسيا على خلفية استخدام الأخيرة لأقمارها الصناعية للتجسس الفضائي. ولذا، أعلنت فرنسا في يوليو/تموز 2019 عن تطوير أشعة الليزر المضادة للأقمار الصناعية لحماية أسطولها. وفي وقتٍ سابقٍ من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، حذّر قائد القيادة الفضائية الأمريكية من محاولات الصين لاستخدام الأقمار الصناعية في وقت الحرب.
ومن ثمَّ، يمكن للولايات المتحدة وبقية حلف الناتو إطلاق ومراقبة الأقمار الصناعية المزودة بمعدات التشويش الإلكترونية لتعطيل أو تدمير أقمار العدو. ويمكن للأقمار الصناعية أن تهاجم مباشرة من خلال الليزر أو مركبات القتل الحركية المصممة لتوجيه نفسها في مسار الأقمار الصناعية للعدو، فتصطدم بها وتدمرها.
ويشير الناتو إلى عدوانية موسكو المزعومة لتبرير موقفه. ومع ذلك، تعد روسيا إحدى القوى الفضائية الرائدة التي لطالما عارضت محاولات عسكرة الفضاء الخارجي. وقد دأبت روسيا والصين -لسنواتٍ عديدة- على الترويج لمشروع معاهدة من شأنها حظر نشر الأسلحة في الفضاء، واستخدام القوة أو التهديد باستخدامها ضد الأجسام الفضائية. بينما تعد الولايات المتحدة الخصم الرئيس لأي مبادراتٍ قانونيةٍ دوليةٍ تهدف إلى منع سباق التسلح في الفضاء.
وعلى خلفية إعلان الناتو، أعلنت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية "ماريا زاخاروفا" "إن موسكو قلقة من إقرار الفضاء كساحةٍ جديدةٍ للعمليات." مشيرةً إلى أن هذا لا يتوافق مع الأمن العالمي. ووفقًا لها، يهدف الحلف إلى التفوق في جميع الساحات دون النظر في العواقب المترتبة على ذلك من عسكرةٍ وتصعيد.
دلالات الإعلان والتوقيت
يأتي اعتبار الفضاء مجالًا تشغيليًا في أعقاب تطوير عددٍ كبيرٍ من الدول لشبكات الجيل الخامس، وإنشاء القيادة الفضائية الأمريكية كجزءٍ من التشكيل العسكري في أغسطس/آب الماضي. فوفقًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يعد الفضاء مجالًا دائمًا للقتال. وعلى الرغم من ذلك، رفض شتولتنبرج في مؤتمرٍ صحفيٍ الربط بين القيادة الفضائية الأمريكية من جهة، وقدرات الناتو المستقبلية المحتملة في الفضاء من جهةٍ أخرى. ليؤكد مرةً أخرىً على أن الناتو لن ينشر أسلحةً في الفضاء.
كما يأتي الإعلان في أعقاب انتقاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للحلف قبيل الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين. فقد صرّح ماكرون في مقابلةٍ له مع مجلة الايكونومست: "لقد مات حلف الناتو. يحتاج الأوروبيون إلى الحلف على قيد الحياة وبصحةٍ جيدة".
فإلى جانب الشلل الدماغي، وافتقار الحلف للقيادة الأمريكية، وتراجع مصداقية تركيا بعد غزوها الشمال السوري، لم يعد ماكرون مومنًا بالمادة الخامسة من معاهدة شمال الأطلسي التي تتعلق في جزءٍ منها بالدفاع الجماعي، وسط تساؤلاتٍ عن مدى التزام الولايات المتحدة بها. وقد سبق وأن شكّك كثيرون في الحلف على مر السنين، غير أنه أثبت بالفعل قدرته على التكيف على مر العقود.
ويأتي الإعلان أيضًا في توقيتٍ تسعى فيه الدول الأعضاء إلى معالجة الانقسامات السياسية الداخلية الجديدة حول عددٍ من القضايا، وذلك من قبيل: الدفاع، والتجارة، وتغير المناخ، والاتفاق النووي الإيراني، والوضع في شمال شرق سوريا؛ فقد تأثر الحلف بمطالبات الرئيس ترامب الصريحة للحلفاء الأوروبيين بزيادة الإنفاق الدفاعي.
ويكافح عددٌ من الدول الأعضاء لحل التوترات السياسية بسبب التدخل التركي في شمال سوريا. ناهيك عن تعدد التحديات التي تواجهه من قبيل: محاربة الإرهاب، والحروب الهجينة، والدور الروسي، والصعود الصيني، والحد من التسلح، وأمن الطاقة.
فعلى سبيل المثال، حصلت تركيا، على موافقة الولايات المتحدة على القيام بعمليةٍ عسكريةٍ في سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2019، على الرغم من معارضة كلٍّ من المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا. وعلى خلفية ذلك، اقترح وزير خارجية ألمانيا هيكو ماس إنشاء فريقٍ من الخبراء برئاسة ستولتنبرج للانخراط في نقاشٍ سياسيٍ حول التفكير الاستراتيجي للحلف ردًا على موقف ماكرون. كما أثيرت مخاوفٍ من تلويحه بالتقارب مع روسيا.
وبجانب دلالات التوقيت، وبالنظر إلى الانشقاقات الداخلية، يدلل إعلان الناتو على قدرته على تجاوز الخلافات بين أعضاءه، ومناقشة مختلف وجهات النظر، وصولًا لاتفاقٍ مشترك. كما يعكس قدرته على التكيف في مواجهة مختلف التهديدات الهجينة وغير الهجينة على مدار سبعة عقود، بجانب مراجعته للتحديات التي تواجه المنظومة العسكرية الغربية.
وفي هذا السياق، يمكن فهم تصريح ستولتنبرج أمين عام حلف الناتو الذي قال فيه: "معظم الوقت نتفق، ثم نتخذ قراراتٍ، ثم نتحرك إلى الأمام. وأحيانًا أخرى، نرى أن هناك بعض الخلافات. لا مجال لنفي الخلافات حول بعض القضايا، لكن الرسالة هي أنه يتعين علينا التغلب على هذه الخلافات، لأنه من الضروري جدًا بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة أن نقف متحدين".
إشكاليات بارزة
يواجه الناتو -على خلفية إعلان الفضاء مجالًا تشغيليًا- جملةً من التحديات والإشكاليات التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- تطوير استراتيجية مشتركة: يؤمن خبراء الناتو بأثر الصراعات العسكرية المستقبلية الحتمي على الفضاء القريب من الأرض، كحالة الهجوم على الأقمار الصناعية ذات الأهمية الاستراتيجية أو استخدام سلاح في الفضاء، وهو ما يتطلب إعلان الفضاء منطقة منفصلة للعمليات العسكرية من جانبٍ، ووضع استراتيجية للفضاء من جانبٍ آخر. أو بعبارةٍ أخرى، في ظل ظهور تهديداتٍ جديدةٍ بفعل التقدم التكنولوجي، لابد للحلف أن يختبر التطبيقات العسكرية للفضاء الخارجي، وهو الأمر الذي يتطلب استراتيجية مشتركة قد يصعب التوصل إليها في ظل الانشقاقات الداخلية.
2- تفاوت قدرات الدول الأعضاء: يتجاوز عددٌ من الدول الأعضاء -وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا- الاستخدامات السلمية للفضاء. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2018 ، أصدر ترامب أمرًا بإنشاء القيادة الفضائية الأمريكية لتحويل الفضاء إلى مجالٍ للحرب.
3- صعوبة التوصل لمبدأ مشترك: يسير الناتو على نفس خطى الفضاء السيبراني؛ ففي عام 2016، تبنى الناتو وجهة نظر مشتركة مفادها أن الهجوم السيبراني قد يسفر عن تفعيل مبدأ الدفاع الجماعي. وعلى إثرها، طوّر الناتو شبكات الكمبيوتر، والبنية التحتية، والبرامج كمجالٍ منفصل. وفي أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، أنشأ مركزًا لتنسيق العمليات السيبرانية في بلجيكا. وعلى الرغم من ذلك فلم يتمكن الناتو بعد من التوصل لاتفاقٍ عامٍ على مبدأ الأمن السيبراني بما يناسب جميع أعضائه. وعلى الرغم من مجهوداته على صعيد الفضاء السيبراني، لم يتبن الحلف أي عملياتٍ هجوميةٍ مشتركةٍ على صعيده.
أو بعبارة أخرى، لم يتوصل الحلف بعد لمبدأٍ مشتركٍ على صعيد العمليات السيبرانية، ليترك ذلك للسنوات القليلة المقبلة. وبذلك، انتقل الناتو إلى المهمة التالية قبل أن ينتهي من مثيلتها السابقة. ودون الوصول لاستراتيجيةٍ فضائية، لن يتمكن الناتو من تخصيص الموارد الإضافية للازمة لتحقيق أهدافه.
4- الفجوة بين الولايات المتحدة وغيرها: تتجاوز ميزانية الفضاء العسكرية الأمريكية لهذا العام 12 مليار دولار. كما طالبت وزارة الدفاع الأمريكية بزيادة تلك الميزانية كي تصل إلى 14 مليار دولار في عام 2020. وعلى النقيض من ذلك، تبلغ ميزانية فرنسا المماثلة -التي تعد الثانية بين دول الناتو من حيث الإنفاق الفضائي "العسكري"- 3.6 مليار يورو للسنوات الخمس المقبلة. ومع نهاية العام الأول لترامب، تم تعديل سياسة الدفاع الصاروخي لواشنطن جذريًا مع زيادةٍ كبيرةٍ في الإنفاق ذي الصلة.
5- الولايات المتحدة وعسكرة الفضاء: أصدرت الولايات المتحدة المجلة الوطنية للدفاع الصاروخي في 17 يناير الماضي، لتعطي الأولوية -من بين أمورٍ أخرى- لنشر الليزر القتالي في مدارٍ قريبٍ من الأرض. وهو قادرٌ على إسقاط الصواريخ المقذوفة. ويتميز بقدرته على تغطية جميع أراضي الولايات المتحدة وحلفائها. وفي المقابل، لم تقترب فرنسا -ثاني أكبر قوة فضائية لحلف الناتو- من ذلك.
تداعيات محتملة
من المتوقع أن يناقش وزراء الدفاع كيفية تعامل الناتو مع التهديدات التي تتراوح بين تعطيل الأقمار الصناعية، وعسكرة الفضاء، والحطام الفضائي. ومن شأن تلك المحادثات أن تطال أحكام المادة الخامسة المتعلقة بالدفاع الجماعي. إذ يحظى قرار الحلف المتصل بإعمال المادة الخامسة من الميثاق على خلفية الهجوم على قمرٍ صناعيٍ لدولةٍ حليفةٍ بأهميةٍ كبرى. ولا يسهل بطبيعة الحال إتخاذ ذلك القرار في ظل تباين آراء دول الناتو كما سبق القول.
ولا شك في تزايد التهديدات المحتملة مع تزايد اعتماد البنية التحتية المدنية والعسكرية الأرضية على الفضاء، وبخاصةٍ مع تنامي قدرة بعض الدول على اختراق أجهزة الكمبيوتر التي تتحكم في الأقمار الصناعية (وذلك وفقًا لتقرير صدر عن شركة الأمن "سيمانتيك" في العام الماضي).
وقد يساعد موقف الناتو في إقناع ترامب بقدرة وجدوى الناتو في ردع الصين كقوةٍ عسكريةٍ منافسة، في الوقت الذي تملك فيه دول حلف شمال الأطلسي اليوم 65٪ من الأقمار الصناعية في الفضاء.
مجمل القول، تتعدد استخدامات الأقمار الصناعية من توجيه الذخيرة باستخدام أشعة الليزر، ومراقبة عمليات إطلاق الصواريخ، وتتبع قواتها، والتجسس على الأصول الفضائية الأخرى؛ فمن يسيطر على الفضاء يسيطر أيضًا على الأرض، والبحر، والجو. ولذا، من شأن عسكرة الفضاء أن تخلق صراعًا عالميًا محتدمًا تحدد نتائجه هيكل وموازين القوى الدولية.
aXA6IDMuMTMzLjE0Ni45NCA= جزيرة ام اند امز