الأزمة السياسية في إسرائيل.. من الحكومة إلى الحصانة
بامتداد الأزمة السياسية في إسرائيل، يثبت رئيس وزراء تسيير الأعمال "نتنياهو" أن البقاء في السياسة ليس بالضرورة للأصلح بل للأقوى.
تتوالى حلقات الأزمة السياسية في إسرائيل، وتتعدد جوانبها القانونية والدستورية، وحتى الآن يبدو أن الحل لم يتبلور بعد، بل هو غائب حتى إشعار آخر، وإلى حين تتفرغ مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد الإسرائيلي، للتفكير في عمق هذه الأزمة وكيفية الخروج منها من خلال القانون والدستور.
تجليات هذه الأزمة تمتد من العجز عن تشكيل الحكومة إلى تعدد الانتخابات البرلمانية، في أبريل وسبتمبر عام 2019، اللتين أجريت فيهما جولتان انتخابيتان، والثالثة ستجرى فى 2 مارس/آذار 2020، والمؤشرات المختلفة حتى الآن سواء التي تفصح عنها استطلاعات الرأي أو موازين القوى بين المعسكرات المتنافسة لا تنبئ بمخرج وشيك ينهي هذه الأزمة.
طلب الحصانة مرحلة جديدة:
دخلت هذه الأزمة السياسية الممتدة في طور جديد، بطلب رئيس وزراء تسيير الأعمال في إسرائيل بنيامين نتنياهو، الحصانة من الكنيست مساء يوم 1 يناير/كانون الثاني عام 2020، وقبل انتهاء المهلة المحددة لهذا الطلب بعدة ساعات، التي لو تأخر في طلبها لسقط حقه في الحصانة ولم يكن بمقدوره استعادة هذا الحق.
كان نتنياهو قبل التفكير في طلب الحصانة، قد كرس كل طاقته وجهده في انتزاع زعامة حزبه "الليكود" في الانتخابات الأولية الداخلية، التي أجراها حزب الليكود لانتخاب رئيسه في 26 ديسمبر/كانون الأول عام 2019، من منافسة على الزعامة "جدعون ساعر"، وأصبح نتنياهو مجدداً زعيم الليكود بلا منازع، بحصوله على 72.5% من أصوات ناخبي الليكود الذين يحق لهم اختيار رئيس هذا التكتل، وحصل منافسة على 27.5% من الأصوات، وهي نسبة ضئيلة لا تخول له الحق في خلافة نتنياهو بافتراض رحيله لسبب أو لآخر.
يمثل الفوز بزعامة ليكود إحدى أهم المعارك التي يخوضها رئيس وزراء تسيير الأعمال في معركته الكبرى من أجل البقاء، وتجنب المحاكمة والسجن في التهم الموجهة إليه بالفساد والرشوة وخيانة الثقة، وقبل هذا الفوز لم يكن يفكر نتنياهو في طلب الحصانة من الكنيست، وكان يرى أنه ليس بحاجة إلى هذا الطلب؛ لأنه بريء من التهم المنسوبة إليه.
أما بعد الفوز بزعامة الليكود، وبعد مشاورات مع أقرب معاونيه الذين نصحوه بطلب الحصانة، فقد غيّر رأيه وتقدم بالطلب واعتبر "أن طلب الحصانة حجر الزاوية في الديمقراطية".
خلفية طلب الحصانة:
حسابات رئيس وزراء تسيير الأعمال التي تأسس عليها طلب الحصانة، كانت تتلخص في أن طلب الحصانة من جانبه يستهدف كسب الوقف والحؤول دون إرسال ملفه القانوني ولائحة اتهامه إلى القضاء الإسرائيلي، لأن الكنيست الإسرائيلي كان قد حل نفسه تمهيداً لانتخابات ثالثة في 2 مارس/آذار عام 2020، ولم يشكل اللجنة التي من المفترض أن تدرس طلب الحصانة.
كما أن الهيئة العامة للكنيست ليس بمقدورها الانعقاد والتصويت على رفض أو منح الحصانة له، ومن ثم فإن طلبه سيتم إرجاؤه إلى ما بعد الانتخابات المقبلة الثالثة، وتشكيل هذه اللجنة وانعقاد الهيئة العامة للكنيست في ظروف ما بعد هذه الانتخابات، التي يعول فيها نتنياهو على الحصول على الأغلبية من الليكود وشركائه من اليمين الديني والمتطرف، التي تؤمن له مثل هذه الحصانة وتحول دون مثوله أمام القضاء.
وتعززت هذه الحسابات باعتقاد نتنياهو ومستشاريه القانونيين استحالة قيام الكنيست المنحل بمهمة فحص طلب الحصانة، الذي تقدم به وعدم أهليته لممارسة هذه المهمة في ظل هذا الوضع الراهن، خاصة أن المعسكر المناوئ له من تحالف أزرق أبيض والعمل "وجيشر" وميريتس" والديمقراطية الإسرائيلية، نجح في تشكيل أغلبية من 65 نائباً في الكنيست، لرفض منح نتنياهو هذه الحصانة.
ومن بين نواب هذا المعسكر نواب القائمة العربية المشتركة؛ حيث إن هؤلاء النواب وعلى رأسهم "بيني جانتس" زعيم أبيض أزرق يرون أن طلب نتنياهو الحصانة يكشف إحساسه بأنه مذنب ولن يستطيع تبرير موقفه أمام المحكمة، بالإضافة إلى ذلك فإن القاسم المشترك الأعظم بين مختلف الكتل البرلمانية المؤيدة لرفض منح الحصانة لنتنياهو، يتمثل في التخلص منه شخصياً وإبعاده عن المشهد السياسي، نظراً لخطورته على الديمقراطية الإسرائيلية.
إلى جانب استخفافه بمؤسسات الدولة الإسرائيلية؛ لأن رئيس وزراء تسيير الأعمال يرى في اتهامه بالرشوة والفساد وخيانة الأمانة والثقة مجرد "مؤامرة" تحيكها مؤسسات الدولة العميقة الإسرائيلية "مثل المحكمة العليا والجهاز القضائي والقانوني والإعلام والنخب اليسارية الناقدة في هذه المؤسسات، وأنه رغم لائحة الاتهام الرسمية الموجهة له من قبل المستشار القانوني والمدعى العام الإسرائيلي بريء منها.
المستشار القانوني للكنيست
رئيس الكنيست المنحل "يولى أدلشتاين" كان يرفض بحث هذا الطلب قبيل إجراء انتخابات الثاني من مارس/آذار عام 2020؛ لأنه عضو في الكنيست عن حزب الليكود، وأعتقد أن موقفه سيضمن له تأييد الليكود، ومع ذلك فإن أعضاء الليكود رفضوا موقفه، كان رئيس الكنيست يطمح في تأييد الليكود له ليصبح رئيساً للدولة الإسرائيلية خلفاً "لرؤوفين ريفلين" الحالي.
ومع ذلك فإن حسابات نتنياهو ومعاونيه ومستشاريه تواجه مأزقاً كبيراً، بعد أن أدلى المستشار القانوني للكنيست "إيال يانون" برأيه بجواز النظر في طلب الحصانة المقدم من نتنياهو من قبل الكنيست الحالي المنحل، فما دام قد تقدم بالطلب يجب فحص الطلب والبت فيه فوراً، لأن النظام البرلماني الإسرائيلي لا يسمح بوجود فراغ دستوري، فإذا كان البرلمان قد حل نفسه، فإن وجوده سيظل قائماً حتى انتخاب برلمان آخر، ومن ثم فإنه بمقدور الهيئة العامة للكنيست أن تجتمع وتتخذ قراراتها كما لم تكن قد حلت نفسها.
وقد تغيرت قواعد اللعبة بعد رأي المستشار القانوني والقضائي للكنيست، وأصبحت الكرة في ساحة رئيس الكنيست، الذي يؤيد مطلب نتيناهو في الحصانة، رغم بعض أوجه السلبية التي تظلل علاقته مع رئيس وزراء تسيير الأعمال، وكان قد تعرض رئيس الكنيست لتهديدات أعضاء الليكود عندما أبدى استعداده لعقد مثل هذه الجلسة، خاصة بعد أن سلمه رئيس حزب الجنرالات رسالة موقعة من جميع رؤساء كتل المعارضين الذين يشكلون 65 نائباً، يطالبون بدعوة الكنيست للانعقاد من أجل انتخاب اللجنة المكلفة بفحص هذا الطلب.
التراجع المحتمل عن طلب الحصانة:
يتميز رئيس وزراء تسيير الأعمال "بالبراجماتية" المفرطة، التي تتمثل في القدرة على المناورة، واحتواء الأزمات والمخاطر، والمرونة في الانتقال والتنقل بين المواقف المتعارضة، وتبني الأفضل والأصلح من وجهة نظره ووفقاً لأهدافه، وهو الأمر الذي يفسر انتقاله من موقف رفض طلب الحصانة من الكنيست في البداية باعتبار أنه بريء.
ثم تبنى موقف مستشاريه ومعاونيه الذين نصحوه بطلبها على ضوء عجز الكنيست المنحل عن فحص هذا الطلب، وعندما تبين له بعد رأي المستشار القانونى للكنيست صلاحيته؛ أي الكنيست لفحص الطلب وعقد هيئته العامة؛ للنظر فيه وتشكيل اللجنة المختصة بفحص الطلب ورفع تقريرها إلى هذه الهيئة.
يحاول الآن سحب طلب منحه الحصانة بناءً على نصيحة مستشاريه الذين كانوا يرون في تقديمه لهذا الطلب، مناسبة لكي يكون فساد نتنياهو والاتهامات الموجهة إليه في بؤرة اهتمام الرأي العام الإسرائيلي والناخبين الإسرائيليين، في مدة التعبئة الانتخابية التي تبلغ عدة أسابيع، وسوف يستثمرها منافسوه لتشويه صورته وإبرازها على نحو يضر نتنياهو والليكود.
في حين أن أجندة شهر يناير، خاصة في الثاني والعشرين منه، سيزور إسرائيل 4 ملوك و26 رئيس دولة؛ للمشاركة في مهرجان بمناسبة مرور 75 عاماً على تحرير معسكر الإبادة النازي، وسيقوم نتنياهو باستقبالهم، وهي مناسبة مهمة له لإلقاء خطاب حول هذه المناسبة، التي حولها إجماع يهودي وإسرائيلي.
كما أنه من المتوقع أن يطرح الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" مبادرته الخاصة بصفقة القرن، وبمقدور نتنياهو أن يقبلها ويقوم الفلسطينيون برفضها، وهي قضايا مثيرة لاهتمام الناخبين، وسيظهر فيها نتنياهو باعتباره يمثل الإجماع الإسرائيلي ويستعيد زعامته بدلاً من التركيز على القضايا المتهم فيها.
بامتداد الأزمة السياسية في إسرائيل، يثبت رئيس وزراء تسيير الأعمال "نتنياهو" أن البقاء في السياسة ليس بالضرورة للأصلح بل للأقوى، الذي يمتلك القدرة على المناورة والانتقال من موقف لآخر، ولا يفتقد القدرة على التبرير والتواؤم مع المواقف الجديدة والمتغيرة، ومع ذلك فإنه من الواضح حتى الآن أن هامش المناورة أمام نتنياهو يضيق شيئاً فشيئاً، وقد يتحدد مصيره في حال استمرار طلب الحصانة في أروقة الكنيست، الذي ظن منذ البداية أنه يفتقد مؤهلات فحص طلبه.