نجح تحالف اليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم، خاصة جناحه الأكثر تشدداً وصهيونية، فيما لم يستطع أشد أعداء «دولة إسرائيل» القيام به طوال أعوامها التي تعدت الخمسة والسبعين.
فبحربه الدموية المتواصلة على قطاع غزة منذ خمسة أشهر، وما نتج عنها من أهوال ودماء وتدمير غير مسبوق حدوثه في الحروب التي عرفها العالم خلال تاريخه المعاصر، نجح في أن يهشم كل ما سعت السياسات الإسرائيلية والصهيونية لترسيخه خلال كل تلك الأعوام.
وبصياغة أخرى وبالعودة للكتاب الشهير الذي ألفه المفكر الفرنسي المعروف روجيه جارودي عام 1995 بعنوان «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، والذي يعتبره البعض بسبب موضوعه ومحتواه ومؤلفه وردود الأفعال عليه، من أكثر الكتب إثارة للجدل خلال القرن العشرين، يتضح لنا أن ذلك التحالف اليميني المتطرف بعدوانه الدموي على غزة قد دمر معظم هذه الأساطير.
فالكتاب، الذي له عدة ترجمات عربية، وإن كان موضوعه الأساسي هو التشكيك في دقة وصحة ما تم تداوله المحرقة (الهولوكوست) التي حدثت لليهود على يد الحكم النازي في الحرب العالمية الثانية، فهو امتد ليحطم أساطير أخرى عديدة قامت عليها الحركة الصهيونية وتأسست عليها «دولة إسرائيل» وسياساتها منذ نشأتها.
ركز الكتاب على تحطيم ما أسماه مؤلفه «أسطورة المحرقة»، باعتبارها مهدت الطريق مباشرة لتأسيس الدولة اليهودية على أرض فلسطين، بما دفعت إليه العالم الغربي، الأوروبي والأمريكي، لأن يكون السند والداعم لتأسيسها، تعويضاً لليهود عما جرى لهم خلال هذه المحرقة في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، باعتبارهم «الضحايا المجني عليهم» في هذه الجريمة.
ويبدو واضحاً من مجريات حرب إسرائيل على غزة، أنه للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تتحول إسرائيل من موقع الضحية المجني عليها إلى الجاني الذي يمثل أمام محكمة العدل الدولية، متهماً بجريمة «الإبادة الجماعية» وارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية، والتي كانت نفسها السبب المباشر في إقامة «الدولة اليهودية» بعد أن كان اليهود ضحايا مثل هذه الجرائم. وهكذا حطمت هذه الدولة بيدها أبرز وأولى ما أسماه جارودي «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية».
ولم يقف الأمر عند هذا. ففي الكتاب المذكور تطرق مؤلفه إلى مجموعة أخرى مما أطلق عليه «الأساطير»، منها الأساطير الدينية، والتي تضمنت أسطورة الأرض الموعودة، وشعب الله المختار، وأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ومنها أساطير القرن العشرين، ومنها معاداة السامية، واللوبي الإسرائيلي في أمريكا وفرنسا، وأسطورة «المعجزة الإسرائيلية».
وبدون إغراق في التفاصيل، فالنظر إلى الآثار والنتائج المباشرة وغير المباشرة للعدوان الإسرائيلي الدموي على الفلسطينيين في قطاع غزة والصامت عليهم في الضفة الغربية، يؤكد كيف نجح الحلف اليميني المتطرف الحاكم في إسرائيل في تحطيم عدد آخر مما أسماهم جارودي «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية». فقد تحطمت تماماً أسطورة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، على صخرة صمود الشعب الفلسطيني، واضطرار كل دول العالم، وقطاع من النخبة والمجتمع الإسرائيليين، للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة على أراضي ما قبل عدوان يونيو 1967، فهو إذاً شعب صاحب حق في هذه الأرض، والتي لم تكن قط خالية منه.
ولم يختلف الأمر كثيراً في تحطم بعض من الأساطير الأخرى، خصوصاً «معاداة السامية»، التي راح حكام إسرائيل يطلقونها على كل مختلف معهم بما فيها محكمة العدل الدولية نفسها، مما أطاح بكل مصداقية لهذا «الاتهام الجاهز» دوماً.
كما تحطمت أسطورة «المعجزة الإسرائيلية»، خصوصاً على الصعيد العسكري والأمني والتكنولوجي الاستخباراتي، وغيرها مما كان يضخم من الانطباع بقدرة إسرائيل الشاملة غير المتناهية على كل شيء، خاصة حماية نفسها وشعبها.
وحتى أسطورة القوة الساحقة للوبي الإسرائيلي في فرنسا وأمريكا، راحت تترنح للمرة الأولى بهذا الشكل العنيف منذ نشأة إسرائيل، ولم يحدث هذا فقط على صعيد النخب في هاتين الدولتين، التي بدأت في مراجعة علاقاتها معها جدياً، لكن أيضاً وللمرة الأولى على صعيد الرأي العام فيهما وفي مجمل الدول الغربية، والذي راحت مظاهر رفضه للسياسات الإسرائيلية العدوانية تتصاعد بصور لم تعرفها من قبل هذه الدول، لا في العمق ولا في الاتساع.
الخلاصة: لقد نجح تحالف اليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم، خاصة جناحه الأكثر تشدداً وصهيونية، بعدوانه الدموي على غزة وهو الأخير من عدوان متواصل منذ نحو القرن على كل الشعب الفلسطيني، في تحطيم غالبية ما أطلق عليه روجيه جارودي في كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»: بأيديهم لا بيد أحد آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة