أمريكا ودور «أقل» بـ«الناتو».. أوروبا حائرة بين بدائل «معقدة ومكلفة»

في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تدور التحركات حول ملء فراغ تراجع الولايات المتحدة، عن دور القيادة الذي لعبته لعقود طويلة.
في المرة الأولى التي تولى فيها دونالد ترامب الرئاسة، كاد أن ينسحب من حلف "الناتو"؛ والآن بعد أن عاد إلى منصبه، أصبح أكثر تقلبًا من أي وقت مضى.
ويشعر الحلفاء الذين يجتمعون في لاهاي هذا الأسبوع، بالقلق من أن الرئيس الأمريكي يتخلى عن أوكرانيا، ومن المتوقع أن يتفقوا على زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي لتهدئته والتأكد من أنه لن يترك أوروبا وحدها في مواجهة روسيا.
وتكمن مشكلة أوروبا في عدم وجود دولة واضحة، أو حتى مجموعة من الدول مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وبولندا، يمكنها أن تعوض حقًا انخفاض المشاركة الأمريكية، إذ تواجه كل دولة أوروبية تحديات مالية وعسكرية وسياسية هائلة.
"فراغ كبير"
وقال عسكري فرنسي رفيع المستوى، لـ"بوليتيكو" الأمريكية: ”ميزة القيادة الأمريكية هي أنها كانت متفوقة للغاية وواسعة النطاق وقوية لدرجة أن لا أحد كان يستطيع الطعن فيها: فقد جلبت النظام إلى ساحة اللعب، ولم يكن هناك شك في من يتخذ القرارات“.
وفي حالة لم تعد فيها واشنطن القوة الدافعة وراء حلف "الناتو" أو الأمن الأوروبي، ”لن يكون هناك بعد ذلك ألفا حقيقي في الحلف“، وفق العسكري الفرنسي الذي أضاف: ”لا أحد آخر يمكنه فرض هيمنته بالقوة“.
وتحدثت "بوليتيكو" إلى عشرة من صانعي القرار الأوروبيين والأمريكيين، حاليين وسابقين، أصروا على أنه من غير المرجح أن تنسحب الولايات المتحدة فعليًا من حلف "الناتو"، لكن كان هناك اتفاق واسع النطاق على أن التحالف العسكري سيضطر إلى التغيير، ما قد يدفع ذلك دولًا أخرى إلى تولي دور قيادي أكبر.
في غضون ذلك، سيتصرف قادة الدول الأعضاء بحذر شديد تجاه ترامب في لاهاي لضمان رحيله سعيدًا.
بدوره، حذر وزير الخارجية الليتواني السابق، غابرييليوس لاندسبيرغيس، ”بدلاً من الأمل في أن تظل الولايات المتحدة في أوروبا وتؤكد تعهدها بالدفاع المتبادل، وهو ما قد يحدث، علينا أن نفكر في كيفية سير الأمور إذا، لسبب أو لآخر، لم تكن الولايات المتحدة موجودة أو لم تكن موجودة بالشكل الذي توقعناه“.
التغيير قادم
لقد اعتمد الأوروبيون على الولايات المتحدة لعقود من الزمن، إذ وفرت أسلحة واشنطن التقليدية والنووية الأمن الأساسي في تحالف عبر الأطلسي قائم على روابط عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية مشتركة.
لكن كل ذلك يتلاشى الآن، مما يجبر أوروبا على طرح بعض الأسئلة الصعبة على نفسها.
إن سلوك ترامب، من ربط الضمانات الأمنية الأمريكية بمقدار ما تنفقه الدول على الدفاع، إلى الإشادة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بينما يهين علناً الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ويهدد بغزو غرينلاند، وضم كندا الحليفة، يقوض الثقة التي استمرت لعقود داخل الحلف، وفق "بوليتيكو".
في موازاة ذلك، تجري الإدارة الأمريكية مراجعة لتقييم ما إذا كان سيتم إعادة نشر بعض القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا في أماكن أخرى، حتى مع تزايد المخاوف الأوروبية من أن روسيا قد تهاجم أراضي حلف "الناتو" في السنوات الخمس المقبلة.
حالة عدم يقين
وقالت باربرا كونز، مديرة برنامج الأمن الأوروبي في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، "إذا قررت موسكو مهاجمة دولة من دول حلف الناتو، فإننا لا نعرف حقًا ما إذا كان ترامب سيخوض حربًا ضد روسيا".
وتابعت "في السابق، في عهد إدارة جو بايدن، كنا على يقين من أن الولايات المتحدة ستفعل ذلك. كنا نعتمد على التأثير الرادع؛ كنا نعتمد على حقيقة أن روسيا لن تحاول حتى".
فيما قال كونز من معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام: ”هناك خلاف بين الأوروبيين حول حجم المشكلة ومدتها. لا يزال هناك من يعتقد أنه لا جدوى من التفكير في خطة بديلة على الفور، لأننا سنتمكن إما من العودة إلى الوضع الطبيعي في عام 2028 مع وصول شخص جيد إلى البيت الأبيض، أو من إبرام اتفاقات مع ترامب“.
وبغض النظر عن الرؤى السياسية، استبدال دور واشنطن العسكري في الناتو، صعب للغاية، إذ وجدت دراسة أجراها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ونشرت الشهر الماضي أن تكاليف استبدال الأسلحة الأمريكية و128,000 جندي في أوروبا، ستصل إلى حوالي 1 تريليون دولار على مدى 25 عامًا.
وأكثر العوامل إلحاحًا في خطة الاستبدال الصعبة هي العوامل التمكينية الحاسمة، وهي الأقمار الصناعية وقدرات الضربات العميقة والتزويد بالوقود جوًا والنقل التكتيكي.
سيناريو التحالف
هنا قال نوربرت روتغن، النائب الألماني عن الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم والمؤيد بقوة للتعاون عبر الأطلسي، ”هدفنا ليس استبدال الولايات المتحدة داخل حلف الناتو، بل استكماله بمزيد من القدرات الأوروبية. بعض القدرات الأمريكية، مثل الردع النووي الموثوق، لا يمكن للأوروبيين توفيرها لسنوات عديدة“،
من جانب آخر، تقر معظم المناقشات حول مستقبل حلف "الناتو" بأن استبدال أمريكا سيتطلب جهدًا مشتركًا.
أحد البدائل في هذا السياق هو تحالف يعرف باسم ”تحالف الراغبين“، بقيادة لندن وباريس، يهدف إلى توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا في حالة وقف إطلاق النار.
لكن هناك مشاكل تحيط بمثل هذا التحالف وقد تضعف دوره، فمن غير الواضح ما إذا كانت فرنسا والمملكة المتحدة، الدولتان اللتان أبدتا أكبر استعداد لتولي أدوار قيادية، تمتلكان المال اللازم للإنفاق على الدفاع.
أما بالنسبة لألمانيا، فهناك شكوك حول الإرادة السياسية للمستشار فريدريش ميرتس لتولي دور قيادي، على الرغم من التصريحات الكبيرة التي أدلى بها خلال حملته الانتخابية حول الحاجة إلى مزيد من الاستقلالية عن الولايات المتحدة.