النيوزيلندية جاسيندا أرديرن.. امرأة "حديدية" بهرت العالم بإنسانيتها
لم تتناقض دموع جاسيندا الجميلة مع جسارتها وتحفيز حكومتها أمنيا وقانونيا وقضائيا في معالجة تداعيات مذبحة المسجدين.
بعمر لم يتجاوز الـ40، أبهرت جاسيندا أرديرن رئيسة الوزراء النيوزيلندية، العالم أجمع بقدرتها على تحويل مأساة مذبحة المسجدين، الجمعة 15 مارس/أذار الجاري، في مدينة كرايس تشيرش النيوزيلندية، والتي ارتكبها الإرهابي الأسترالي برينتون تارانت وأدت إلى مقتل 50 شخصا، إلى فرصة للتمكين للتعايش والسلم الوطني والعالمي والحرب على الإرهاب وطي صفحته في وطنها والعالم.
جاسيندا، ذات الـ(38) ربيعا، أعلنت تحديها الكبير لفعل الإرهابي ورمزيته، مؤكدة على حرمانه حتى من الذكر ونسيان اسمه وفعلته وصورة البطل التي حاول أن يصنعها لنفسه، بل وقررت حكومتها اليوم الأحد، تجريم تناول بيانه المتطرف الذي برر به فعلته.
رئيسة الوزراء النيوزيلندية بإنسانيتها الرائعة لم تعانق شعبها المكلوم في مصابه، بعد أن فجعته مفاجأة المذبحة التي اختار الإرهابي مكانها لعلمه بإمكانيتها غير المتوقعة فحسب، بل عانقت به العالم أجمع وخاصة العالم الإسلامي، الذي نجحت ببساطتها وخطابها وسلوكياتها التلقائية والعفوية في حجب وتقييد وإحراج كل أصوات الكراهية المضادة، التي حاولت توظيف الحدث ولكن سريعا ما تراجعت، شأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبالفعل بهرت جاسيندا كل رواد التعايش والتسامح، فقدم لها التحية الكثير من كبار زعمائه وقادته ومثقفيه، وفي المقدمة حكومة الإمارات ورئيسها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي، التي رفعت صورتها وهي تعانق سيدة من ذوي الضحايا بمشاعر تتكلم بها الخطوات وتفوح بعمقها العبرات والدموع.
جسارة لا تخفي الإنسانية
وفي خضم كل ذلك، لم تتناقض دموع جاسيندا الجميلة مع جسارتها وتحفز حكومتها أمنيا وقانونيا وقضائيا في معالجة تداعيات المأساة، والاستعداد لمكافحة أي خطر محتمل، كما لم تخف رقتها وعناقها التعايشي مع الضحايا إصرارها على اجتثاث بذور الكراهية وثقافتها وحرمانها من فرصة الظهور من جديد.
فمن هي المرأة التي تعد أصغر رئيسة للوزراء في العالم الآن، وثاني أصغر رئيس للوزراء في تاريخ بلادها؟ وما هو تكوينها الفكري والثقافي؟ وما هي محطاتها السياسية والعملية، وما ملامح شخصيتها، وهل اتسقت مع توجهاتها الحالية؟
20 عاما من الطموح
ربما كانت البداية الفعلية لـ "جاسيندا" عام 1999 عندما رشحتها خالتها ماريا أرديرن الناشطة في حزب العمال لمساعدتها في إدارة الحملات الانتخابية للحزب في هذا العام، بعد التحاقها به عام 1997 وهي لا تزال في السابعة عشرة من عمرها عضوا في لجانه الشبابية، وقد مثلت هذه الخالة مصدر الإلهام والقدوة للفتاة الشابة، وكانت داعمتها في الالتحاق بعد تخرجها من جامعة مدينتها وايكاتو بعد أن درست الاتصال السياسي والعلاقات العامة سنة 2001 بمكتب رئيسة الوزراء هيلين كلارك كباحثة سياسية فيها.
ثم عملت جاسيندا فيما بعد مستشارة في مكتب توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وسط عشرات آخرين، ولم تره شخصيا إلا في نيوزيلندا ووجهت له سؤالا مباشرا عن موقفه من حرب العراق سنة 2003.
ولكن يظل لوالدها الضابط الذي انتقلت معه لأكثر من مدينة، ووالدتها المتواضعة مساعدة مدرسة، تأثير كبير في تركيبتها الشخصية، سواء من جهة الصرامة وقوة الشخصية، أو من جهة الطموح التعليمي والإنساني.
هذه الروافد المتعددة للشخصية كانت واضحة منذ وقت مبكر، جسارة الحضور لشخصية جاسيندا وزعامتها العفوية التي لا تعرف التصنع، فقد انتخبت عام 2008 رئيسا لاتحاد الشباب الاشتراكي، كما انتخبت في العام نفسه عضوة بالبرلمان.
2017 عام الصعود
كان 2017 عام صعودها حزبيا ووطنيا، على حد سواء، فقد انتخبت نائبة لرئيس حزب العمال في الأول من مارس هذا العام، وتولت رئاسته مباشرة بعد استقالة لزعيمه السابق أنيت كينج في 1 أغسطس/آب سنة 2017، بعد استفتاء داخلي داخل الحزب، وغدت زعيمة المعارضة داخل البرلمان، وكان لها الفضل في زيادة شعبية حزبها في استطلاعات الرأي المختلفة، وهو ما اتضح في فوز حزبها ب 46 مقعدا في الانتخابات العامة في 23 سبتمبر/أيلول سنة 2017، بزيادة 14 مقعدا عن الدورة السابقة، ليأتي في المرتبة الثانية بعد الحزب القومي الذي فاز بـ 56 مقعدا، وبعد مفاوضات قبل الأخير الدخول في تحالف مع الأقلية مع حزبي العمال الخضر، وتولي جاسيندا رئاسة الوزراء في 26 أكتوبر/تشيرين الأول من العام نفسه.
ومثلت رئاستها حزب العمال ثورة داخل حزبها الذي كان مهتزا ويعيش أزمات عتيقة، بعد تخلى زعيم الحزب السابق أندرو ليتل عن منصبه قبل سبعة أسابيع فقط من الانتخابات، وبمجرد أن تم التصويت عليها واختيارها شرعت في برنامج كبير عرف باسم "حملة حياتنا" وكسبت صدى واسعا، كما ارتكز برنامجها الحكومي على فكرة العيش المشترك والأجمل للجميع.
من المهاجرين إلى حل الدولتين
على المستوى الوطني تؤمن جاسيندا بمبادئ حزب العمال، إذ تعتبر نفسها اشتراكية ديمقراطية وتصف نفسها بأنها تقدمية ونسوية، فيما تصفها هيلين كلارك رئيسة الوزراء السابقة بأنها بطل سياسي، وتتمسك بضرورة استعادة دور الرفاه والعدالة الاجتماعية والإنسانية في عمق التطور الرأسمالي، وترى في الرأسمالية المتوحشة أزمة صارخة، وتستدل بانتشار ظاهرة التشرد وفاقدي المأوى في نيوزيلندا.
كما تبدي جاسيندا إيمانا كبيرا بالحقوق الثقافية لأقلية الماوري سكان نيوزيلندا الأصليين، وتؤمن بإلزامية تعليم لغاتهم في مراحل تعليمهم المختلفة، وحقوقهم السياسية والمدنية واختيار من يمثلهم وإدارة مناطقهم، وتتخذ موقفا متساهلا من تعاطي المخدرات.
وتتسق مواقف جاسيندا السابقة مع موقفها الحالي من التعاطف مع المهاجرين وتشجيع الهجرة إلى بلدها، والإيمان بحقوق المواطنة للأقليات، وهي المبادئ التي تستفز اليمين القومي المتطرف الذي هددها مؤخرا بأنها الضحية القادمة، فهي تعلن دائما حاجة بلادها للمهاجرين وتدعو لزيادة نسب المهاجرين.
وتدعو جاسيندا دائما لإقرار حل الدولتين في الصراع العربي الإسرائيلي، وترفض قمع الاحتلال للمواطنين الفلسطينيين في مواقف وتصريحات لها في مايو/أيار سنة 2018.
شجاعة إنسانية لا تعرف الضعف
تبدو جاسيندا مؤمنة على المستوى الشخصي والحكومي بالحريات لأقصى حد، وتلتزم الشجاعة التي لا تستحي من الضعف الإنساني والروحي، فقد أعلنت بعد توليها مباشرة رئاسة الحكومة رغبتها في أن تكون أما، وقد أنجبت ابنتها في يوليو/تموز سنة 2018 وحملتها معها للبرلمان، وهي المرة الثانية التي يحدث فيها ذلك عالميا، كما لم ترتبط رسميا حتى الآن بشريكها ووالد ابنتها كلارك جيفورد المذيع في التليفزيون النيوزيلندي ومقدم برامج وثائقية فيه.
رغم أنها ثالث امرأة تتولى منصب رئيس الوزراء في نيوزيلندا، وعمرها 37 عاما، حيث كانت الأولى جيني شيبلي التي تولت المنصب في الفترة من 8 ديسمبر 1997 إلى 5 ديسمبر 1999، والثانية هي المرأة القوية هيلين كلاريك التي خلفتها على المنصب وهي أول امرأة تنتخب للمنصب، وذلك من عام 1999 إلى 2008، رغم ذلك إلا أن جاسيندا على ما يبدو المرأة التي سيبقى ذكرها فترة أطول، وخلدت بممارساتها ولمساتها الإنسانية والذكية للمرأة الإنسانة والقيادة الحكيمة، في أزمة عميقة شغلت العالم ولكنها نجحت أن تحولها لصالحها وصالح وطنها وما تؤمن به، بردا وسلاما عليها بعد أن كادت تكون نارا تأكل الجميع وتلتهم بلدها أولا.