صراع "الكعكة الصفراء" يشتد.. رحلة "اليورانيوم" من مادة مُلونة إلى سلاح مدمر (خاص)

من مادة مُلونة إلى أخطر سلاح نووي عرفه التاريخ، تحوّلت مادة "اليورانيوم" الكيميائية، التي تتصدر المشهد العالمي اليوم مع الانقلاب العسكري الذي تشهده دولة تعد المنتج الرئيسي لها.
ويعيش 41.4% من سكان النيجر في فقر مدقع وفق البنك الدولي، كما تحتل هذه الدولة الواقعة في منطقة الساحل الأفريقي، المرتبة الأخيرة في العالم بمؤشر التنمية البشرية الذي وضعه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
ورغم هذه الأرقام التي تكشف عن وضع اقتصادي ومعيشي متدن، إلا أنها في المقابل واحدة من الدول الرئيسية المنتجة لليورانيوم، حيث تحتل المرتبة الرابعة بين الدول المنتجة له، ويعد السلعة الرئيسة في صادراتها، وهو ما دفع البعض إلى محاولة الربط بين الانقلاب الذي تشهده النيجر حاليا ومحاولات السيطرة على هذا الكنز.
- تهافت عالمي على امتلاك اليورانيوم.. فوائد اقتصادية تتزايد وتستمر
ويرتبط اليورانيوم في الأذهان بالسلاح النووي المدمر، وهو واحد من أبرز استخداماته، غير أنه له استخدامات أخرى في الطاقة النووية السلمية لتوليد الكهرباء، وتحتكر المجموعة النووية الفرنسية "أورانو" (أريفا السابقة) استغلال اليورانيوم هناك لمدة 50 عاما في شمال البلاد، حيث تعتمد فرنسا على النيجر في الحصول على 35% من الاحتياجات الفرنسية من اليورانيوم لمساعدة محطاتها النووية في توليد 70% من الكهرباء.
ووفق موقع "لايف ساينس"، فإن قصة هذا المعدن المهم بدأت في عام 1789، عندما اكتشف الكيميائي الألماني مارتن هاينريش كلابروث اليورانيوم في معدن البتشبلند، والذي كان يُعتقد في ذلك الوقت أنه خام الزنك والحديد، وتمت إذابة المعدن في حمض النيتريك، ثم تمت إضافة البوتاس (أملاح البوتاسيوم) إلى الراسب الأصفر المتبقي.
واستنتج كلابروث أنه اكتشف عنصرا جديدا عندما لم يتبع التفاعل بين البوتاس والترسب أي تفاعلات لعناصر معروفة، تبين أن اكتشافه هو أكسيد اليورانيوم وليس اليورانيوم النقي، ثم لاحقا قام الكيميائي الفرنسي يوجين ملكيور بيليغو بعزل اليورانيوم النقي عام 1841 عن طريق تسخين رابع كلوريد اليورانيوم بالبوتاسيوم.
أما اكتشاف القدرات المشعة لليورانيوم فكانت عن طريق الفيزيائي الفرنسي أنطوان بيكريل عام 1896، وكان بيكريل قد ترك بعض أملاح اليورانيوم على لوحة فوتوغرافية كجزء من بعض الأبحاث حول كيفية تأثير الضوء على هذه الأملاح، ولدهشته غمرت اللوحة الضباب، ما يشير إلى نوع من الانبعاثات من أملاح اليورانيوم، وخلص إلى أنها كانت تطلق أشعة غير مرئية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تمت فيها دراسة النشاط الإشعاعي وفتح مجال جديد من العلوم، ثم جاءت ماري كوري عالمة بولندية وصاغت مصطلح النشاط الإشعاعي بعد وقت قصير من اكتشاف بيكريل.
وواصل العالم الفرنسي بيير كوري البحث لاكتشاف العناصر المشعة الأخرى، مثل البولونيوم والراديوم وخصائصهما، وتقاسم بيكريل جائزة نوبل مع ماري وبيير كوري في عام 1903 عن هذا الاكتشاف.
كيف تحول اليورانيوم لسلاح مدمر؟
وإذا كان الكيميائي الألماني مارتن هاينريش كلابروث هو من اكتشف أكسيد اليورانيوم في عام 1789، فإنه قد ثبت لاحقا أن الإنسان القديم استخدمه دون أن يعرف اسمه لتلوين الأشياء وإضفاء جانب من اللون الأصفر عليها، واكتشف العلماء بجامعة أوكسفورد في عام 1912 داخل فيلا رومانية يعود تاريخها لعام 79 ميلاديا فسيفساء زجاجية صغيرة ملونة بالأصفر احتوت على ما يقارب 1 بالمئة من أملاح اليورانيوم، كما اعتمد العاملون في مجال صناعة الزجاج أثناء العصور الوسطى بأوروبا على اليورانيت، المعروف أيضا بـ"البتشبلند"، وهو خام معدني نشط إشعاعيا وغني بثاني أكسيد اليورانيوم لتلوين الزجاج.
وأكسيد اليورانيوم الصلب هذا هو الشكل الذي يُباع فيه اليورانيوم عادة قبل تخصيبه، وتكمن القوة التدميرية لليورانيوم في كفاءة عملية التخصيب، كما يوضح د.جيم نابوليتانو الفيزيائي بجامعة تمبل الأمريكية لـ"العين الإخبارية".
وفي خام اليورانيوم الطبيعي يوجد حوالي 0.7% فقط من نظير اليورانيوم، المعروف باسم "اليورانيوم 235"، وهو مادة "انشطارية"، ما يعني أن نواته يمكن أن تنقسم بواسطة نيوترونات حرارية، وهذه النيوترونات لها نفس الطاقة مثل محيطها.
ويقول تمبل إن نواة ذرة "اليورانيوم 235" تحتوي على "143 نيوترون"، وعندما يصطدم النيوترون الحر بالذرة، فإنه يقسم النواة، ويطرح نيوترونات إضافية، والتي يمكنها بعد ذلك أن تنطلق في نوى ذرات اليورانيوم 235 القريبة، ما يخلق سلسلة ذاتية الاستدامة من الانشطار النووي، ويولد كل من أحداث الانشطار حرارة، وفي المفاعل النووي تُستخدم هذه الحرارة لغلي الماء، ما ينتج بخارا يحول التوربين لتوليد الطاقة، ويتم التحكم في التفاعل بواسطة مواد مثل الكادميوم و البورون، والتي يمكن أن تمتص نيوترونات إضافية لإخراجها من سلسلة التفاعل.
وللحصول على ما يكفي كان على العلماء إيجاد طرق لفرز "اليورانيوم 235"، من بقية المواد في عملية تعرف باسم التخصيب، وتلزم المفاعلات النووية السلمية التي تستخدم لأغراض إنتاج الطاقة بنسبة 4% من"اليورانيوم 235" الناتج عن التخصيب، وترتفع النسبة إلى أكثر من 90% في حالات الاستخدام العسكري لليورانيوم في إنتاج السلاح النووي.
كنز النيجر المنهوب
وسواء كان اليورانيوم لأغراض إنتاج الطاقة أو لأغراض عسكرية يظل معدنا اقتصاديا مهما للغاية، وهو السر وراء رد الفعل الفرنسي على انقلاب النيجر، إذ تخشى فرنسا تأثر مصالحها في النيجر القائمة على الكنز الموجود هناك، كما يقول د.يسري أبوشادي، كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا في تصريح خاص لـ"العين الإخبارية".
ويوضح أبوشادي أن المناجم في النيجر تحتوي على اليورانيوم بتركيز اقتصادي كبير، إذ إن اليورانيوم عندما يكون موجودا في الصخور بنسبة أقل من 1 في الألف يكون غير اقتصادي، لكن عندما ترتفع هذه النسبة يكون استخراجه مجديا اقتصاديا، وهو ما يتحقق في مناجم النيجر.
ويشرح أبوشادي رحلة الوصول إلى نظير اليورانيوم "اليورانيوم 235"، وهو المستخدم سواء في المفاعلات السلمية أو لأغراض تدميرية، قائلا إنّ البداية تكون في وجود اليورانيوم في الصخور متحدا مع أكاسيد مختلفة، فيتم فصله وتنقيته في المنجم حتى تعلو كثافة اليورانيوم، ثم بعد ذلك يتم إرساله إلى مصانع للتركيز، تحوله إلى الشكل التجاري لليورانيوم الذي يعرف باسم (الكعكة الصفراء).
ويستطرد: "بعد ذلك ترسل الكعكة الصفراء إلى مصانع التحويل، التي تقوم بتحويله أما إلى يورانيوم غازي أو أكسيد يوانيوم (UO2)، ثم تجرى عملية تخصيب لليورانيوم للوصول إلى نظير اليورانيوم (اليورانيوم 235)، وبحسب النسبة التي يتم الوصول إليها من التخصيب يتباين استخدام (اليورانيوم 235)، فعندما تكون النسبة في حدود 4% تكون كافية للاستخدامات السلمية لتوليد الطاقة، ولكن عند الارتفاع لنسبة 90% وأكثر فهذا يعني إمكانية توظيفه لأغراض عسكرية".