انسحاب فرنسا من النيجر.. وثيقة "استسلام" تحترق بنار الغموض
بإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سحب سفير بلاده في النيجر وإنهاء التعاون العسكري مع البلد الأفريقي، تضع باريس ختمها على وثيقة استسلام لكن نار الغموض تلتهمها.
فأمام ثقل الخطوة على باريس التي لم يكن انقلاب النيجر بالنسبة لها حدثا عاديا، إذ كان الرئيس الذي أطاح به العسكريون، محمد بازوم، حليفا قويا لها في الحرب ضد الإرهابيين ، وشريكا اقتصاديا قويا، وأحد آخر القادة الموالين لها في منطقة الساحل الأفريقي، ينقسم المراقبون حول دلالات القرار الفرنسي.
وجاءت تصريحات ماكرون يوم أمس الأحد لتراكم أسئلة عديدة؛ هل يعني الإعلان تسليم باريس بالفشل في النيجر، الدولة التي شهدت قبل أسابيع انقلابا عسكريا على سلطة حليف فرنسا محمد بازوم.
ورفضت فرنسا مطالب العسكر بمغادرة سفيرها البلاد على اعتبار أن المطلب يصدر عن مجموعة غير شرعية لا تملك الحق في ذلك.
وبدا القرار الفرنسي المتأخر صدمة في أوساط المراقبين، حتى إن عددا منهم يعتقد أن القرار تكتيك فرنسي لا أكثر ولا أقل، إذ يصعب على الكبرياء الفرنسي التسليم بهذه الصورة بعد أسابيع من التشدد.
هزيمة أم تكتيك؟
وانقسم الخبراء حول هذا الانسحاب المفاجئ لفرنسا من النيجر، فبينما اعتبره مراقبون هزيمة قوية لباريس في المنطقة، اعتبره فريق آخر مجرد تكتيك لتدخلات فرنسية مقبلة، وأن باريس لا يمكنها أبدا أن تخرج من نيامي بهذه الطريقة.
كما أرجع كثيرون هذا الانسحاب إلى الواقع المأزوم في النيجر وتعنت المجلس العسكري في البلاد أمام أي تدخل فرنسي، بالإضافة إلى الموقف الأمريكي الذي لم يكن مساندا لباريس بالدرجة الأولى، علاوة على الكلمات القوية لرؤساء بعض الدول الأفريقية في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والتي هاجمت بشدة التدخل الغربي وعلى رأسه فرنسا والاستفادة من الثروات الأفريقية في مقابل الهيمنة وانتشار الفقر والجهل والإرهاب.
انتصار أفريقي
الدكتور محمد شريف جاكو الخبير التشادي في الشأن الأفريقي يرى من جانبه أن هذا الانسحاب يعد أول انتصار للإرادة الأفريقية على الإرادة الأوروبية.
وقال جاكو في حديثه لـ "العين الإخبارية" إن الخطاب الأفريقي في الجمعية العمومية كان دافعا كبيرا في هذا الانسحاب الفرنسي من النيجر، واعتبر هذه الإرادة شبه الجماعية كانت عاملا مهما في إجبار الرئيس ماكرون على هذا القرار بعودة السفير وسحب القوات، لافتا إلى مطالبات التعويض عن تجارة الرقيق في أفريقيا، وإلى أن ذلك سيفتح الطريق في المستقبل على الأقل باعتذارات أوروبية عن هذه القضية.
وأكد أن سلطة الأمر الواقع في النيجر أيضا كانت أحد الأسباب المهمة في هذا الانسحاب،
وتابع: "لا أعتقد أن باريس سوف تستسلم بهذا الانسحاب"، مستدركا في الوقت نفسه "لكن ليس بمقدورها فعل شيء".
وقال الخبير التشادي في الشأن الأفريقي من الممكن أن تقف فرنسا خلف الأزواد في شمال مالي وخلف دول الإيكواس، لكن تحالف دول الساحل (مالي- بوركينافاسو- النيجر)، والدعم الروسي سيكون حائط صد أمام أي تدخلات فرنسية غير مباشرة، فضلا عن حشد الرأي العام المحلي والدولي ضد سياسات باريس في المنطقة.
ورأى جاكو أن منظمة إيكواس كلاعب رئيسي في المنطقة انتهت، وأن الشعوب الأفريقية تعتبرها مجرد واجهة لفرنسا في دول غرب القارة، مقللا من العقوبات التي فرضتها وستفرضها المنظمة على النيجر، بعد فشلها في الانتشار العسكري الذي هددت به منذ بداية الانقلاب في نيامي.
وتوقع أن يكون العام القادم هو مزيد من خسارة فرنسا بالمنطقة، وبداية لمزيد من تحالف دول الساحل الأفريقي ضد الهيمنة الفرنسية -على حد تعبيره-، مؤكدا أن كل خيارات فرنسا للعودة من جديد ستبوء بالفشل، وأنها لن تستطيع شق الصف الوطني في النيجر حتى الآن، ولن تستطيع مستقبلا.
لن تقبل الخسارة
في المقابل كشف محمد سيدي الصحفي والمحلل السياسي في النيجر أن هناك شيئا آخر يتم الإعداد له في الكواليس، وقال سيدي لـ"العين الإخبارية" لا يمكن أن تترك فرنسا النيجر وتذهب بهذه الطريقة.
ووصف سيدي الانسحاب بـ"المستحيل"، مشيرا في هذا الصدد إلى حديث ماكرون بأنهم لن يكونوا سجناء هذا الانسحاب، مضيفا أن فرنسا لا يمكن أن تتخلى عن الرئيس المخلوع محمد بازوم.
وكانت فرنسا قد أعلنت في وقت سابق أنها لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه الأوضاع في النيجر.
وألمح المحلل السياسي أن باريس لديها نية أخرى إما بزعزعة الاستقرار أو بإسقاط الحكم الحالي، موضحا أن بازوم بدأ يظهر للعلن، وأن لديه مشاكل كثيرة مع الرئيس السابق محمد يوسفو.
وقال إن يوسفو يحاول أن يتقرب من السلطة الحالية الآن، وإنه أعلن رفضه للتدخل العسكري في البلاد، معتبرا أن موقف يوسفو يؤكد أنه أصبح ضد فرنسا لصالح مصالحه مع المجلس الجديد.
وتابع أن ما يؤكد ذلك هو تضامن عدد من الأحزاب السياسية في مسقط رأس يوسفو مع المجلس العسكري، متوقعا سيناريوهات أكثر سخونة في النيجر بعد قرابة الشهرين من الانقلاب فيها دون معرفة اتجاهات الانقلابيين حتى اللحظة.
صوت العقل
أما اللواء محمد عبد الواحد الخبير العسكري والأمني المصري المختص بالشأن الأفريقي يرى من جهته أن هذا الانسحاب يمثل صوت العقل بعد حالة الغليان الكبيرة في المنطقة.
وقال عبد الواحد لـ"العين الإخبارية" إن كل المعطيات على الأرض تؤكد فشل فرنسا في الساحل الأفريقي وفي ملف مكافحة الإرهاب بالمنطقة منذ عام 2013.
وأشار إلى أن سبب فشل باريس في الملف الأخير يرجع إلى أن فرنسا ركزت فيه على المكافحة العسكرية والأمنية، وأنها لم تركز على البعد الثقافي والتعليمي والتنمية الاقتصادية.
وأوضح أن فرنسا كانت تتصيد قادة الجماعات الإرهابية في المنطقة فقط، وتركت الجماعات نفسها تمارس دعايتها، بالإضافة إلى اتهامات بالتحالف مع جماعات مشبوهة، مضيفا أن باريس حاولت التأثير والترويج لفكرة أهمية تواجدها في المنطقة من أجل محاربة الإرهاب، ولكنها فشلت في ذلك.
ولفت الخبير العسكري إلى وجود قوات دولية أيضا تريد طرد فرنسا من المنطقة، وقال إنه لذلك كان على فرنسا الانسحاب من اليوم الأول حتى لا تعرض سفيرها وسفارتها في نيامي للخطر، وحتى تمنع تدهور العلاقات مع النيجر.
وتابع أن باريس الآن لديها عدد من السيناريوهات إما تدخل عسكري مباشر وهذا صعب، أو تدخل غير مباشر بعمل قلاقل في المنطقة، إلى جانب تدخلات استخباراتية، تستهدف قطع المساعدات وفرض العقوبات وتحريض دول الجوار ضد النيجر، أو بدعم المعارضة للانقلاب، أو بالتخطيط بانقلاب على الانقلاب، ويساعدها في ذلك ولاء كثير من الضباط الكبار في الجيش لصالح باريس.
وأكد أن فرنسا رغم ذلك لن تقف مكتوفة الأيدي وستعمل من جديد لحماية مصالحها في البلاد، مشددا على أن أول المستفيدين من خروج فرنسا من النيجر هو أمريكا.
وقال إن أمريكا ترى أن التواجد الروسي في المنطقة أقل وطأة من الفرنسي، وأن التواجد الروسي مؤقت ولا تستطيع موسكو تحمل تبعاته، كما توقع أن تشهد الفترة المقبلة في المنطقة حروبا استخباراتية ناعمة غير واضحة، مستدركا أنه رغم عدم قبول باريس بشرعية الانقلاب في النيجر إلا أنه أصبح أمرا واقعا، ورأى أن تجميد الاتحاد الأفريقي في النيجر يعد مؤشرا لعدم شرعية بازوم على عكس ما يرى البعض.
aXA6IDE4LjE5MC4xNjAuNiA= جزيرة ام اند امز