من جملة ما يطرحه الحدث النيجري تساؤلات عن مُحدَّدَين اثنين ظلا عالقين في بنية التكوين السياسي والاقتصادي لبلدان القارة السمراء وإنسانها عموما.
وهما جدلية العلاقة بين الداخل والخارج وتأثيراتها ومنعكساتها المباشرة على مسار التطور الطبيعي للمجتمعات السياسية وعلى المسيرة التنموية فيها.
وكذلك عقدة الفكاك والانعتاق من النزعة الاستعمارية الانتهازية التي تجثم على صدور الطبقات السياسية فيها، وتلعب دورا سلبيا في عملية تأجيج الصراعات الداخلية في البلد الواحد أو خارج حدوده مع الجوار من أبناء قارته كلما اقتضت مصالح الآخرين ذلك.
وخلال حوالي قرن من الزمن مرت على بلدان أفريقيا موجات من التقلبات السياسية والانقلابات والصراعات الدموية الداخلية والخارجية، وكانت في معظمها تتفجر تحت أعين المستعمرين المستثمرين لمكنوناتها الطبيعية وثرواتها الهائلة، وفي بعض الأحيان بتحريض من الدول المستعْمِرة ذاتها، إما بسبب خلافات على حصص الثروات وتقاسمها في ما بينها، وإما على خلفية تنامي نزعة هيمنة، وإما محاولة استفراد جهة دولية صاعدة بمكاسب إضافية.
وبعد الحرب العالمية الثانية اتجهت أنظار القوى الكبرى الصاعدة، وتلك الاستعمارية المتراجعة قليلا عن مكانتها وتأثيرها التقليدي على المسرح العالمي، نحو البحث عن مصادر الطاقة والثروات الخام، فكانت القارة السمراء وجهتها.
ازداد الاهتمام بها وتطور التنافس على النفوذ إلى صراع على الحصص بالشراكة حينا وبالتناحر أحيانا كثيرة، فأبدعت الذهنية الاستعمارية المهيمنة أساليب متنوعة في عملية الاستحواذ على مقدرات القارة، من خلال تأسيس شراكات مع قوى محلية غير متجانسة، بل متعارضة في البلدان المستهدفة وأقرنتها باستراتيجية تغيير واسعة لهوية المجتمعات، لغويا وثقافيا وسياسيا، وزرعت نُظُم حكم سياسيةً في أجزاء من جسد القارة، أغرقتها بمشاكل مختلفة فيما بينها، حدودية ومائية وسياسية وقبلية، لكي تحقق أهدافها بالاستيلاء المريح على ثرواتها.
وفي خضم نشوة المكاسب والهيمنة، غابت عن ذهنية المستعمرين حقيقتان وجوديتان، الأولى أن إدارة الظهر للإنسان الأفريقي وإهمال بنائه وتنميته، وعدم تطوير قدراته ومنعه من التمتع بجزء من ثروات بلاده سترتد سلبا عليهم، وستؤدي إما للانقلاب على مستعمره، وإما للبحث عن بدائل يأمل في أن تحقق له أهدافه وكيانه وتحترم هويته.
أما الحقيقة الثانية فهي رغبات دول كبرى منافسة ومتنافسة في الاستثمار في أسواق القارة السمراء وشعوبها الفتية وثرواتها الطبيعية المتنوعة على قاعدةٍ أبعد من أن تكون اقتصادية فحسب، بل تتعداها إلى صراعات النفوذ والمكانة والهيمنة، وهو ما تجلى صريحا خلال العقود الأربعة الماضية، حيث تحولت القارة السمراء إلى مسرح تنافس شديد السباق بين القوى الكبرى، من الولايات المتحدة إلى الصين إلى أوروبا المستعمِرة التقليدية لعدد من دول القارة، حتى بدا الأمر وكأن أفريقيا باتت المرشح الأهم لساحات صراعهم تحت لافتة الاستثمار الاقتصادي والتنافس التجاري الذي لا بد له من أن يحرك نوازع السيطرة، ويولد أدوات الصراع وأساليبه بما يتوافق مع حجم الأطماع والتحديات في الآن ذاته.
الحدث النيجري يعكس بوضوح صارخ تذمر الطبقة السياسية والعسكرية والشعبية في البلاد من نهج وسياسة فرنسا، كما يعكس عقم التفكير السياسي الفرنسي بحوامله الاستعمارية خصوصا، والغربي بشكل عام، مقابل زحمة ومغريات النماذج الأخرى التي تتوالى على السوق الأفريقية بصنوفها السياسية والاقتصادية والتجارية منذ سنين طويلة، كالنموذج الصيني مثلا، حيث يتغلغل ويتسلل بنعومة إلى معظم الأسواق الأفريقية كغيرها من الأسواق العالمية بما فيها الأمريكية والغربية، وربما يبدو السؤال جوهريا في هذا المقام عن مقومات هذا النموذج وقابلية المجتمعات المستهدفة لقبوله؟ والإجابة لا تبدو عصية، إنه النموذج الذي لا يحمل أجندات سياسية من جانب، ومن جانب آخر لا ينطوي على معتقدات خاصة، وآثَر تركها على عتبة القارة قبل الولوج إليها، لكنه محمّل باحتياجات تناسب جميع الشرائح.
معضلة القارة السمراء كما تتضح عند مقاربة الحدث النيجري تبدو ثلاثية الأبعاد، بعدها الأول يتمثل بتراكمات الإرث الاستعماري وسياقاته المتعددة وتبدد ثرواتها، أما بعدها الثاني فيتمثل في غياب الدولة الوطنية مما يعني غياب التنمية بسبب تأثير البعد الأول ومتطلباته، في حين يتجسد البعد الثالث في التحدي الذاتي الذي تفرضه مقتضيات الانعتاق الحقيقي والتام من ربقة مراحل العبودية والاستعمار.
في الوجه الآخر لأطماع وتنافس القوى الكبرى عليها، أضحت أفريقيا برمتها قارة الوعد الجديد لأهلها، كما هي قارة حلمٍ لإنسانها بعد أن وعى ذاته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة