يعلم جميع المراقبين أن أسلوب ترامب في التفاوض عادة ما يتلخص في تصعيد الموقف، ثم خلق ضغوط، يتبع ذلك بإلقاء مسؤولية إيجاد الحلول على الأطراف الأخرى.
نجح هذا مع كولومبيا والمكسيك وكندا وبنما مؤخرًا، حتى قبل أن يكمل شهره الأول في ولايته الثانية في البيت الأبيض، وربما سوف ينجح نفس الأمر مع روسيا وإيران في مرحلة لاحقة.
وهو الآن يكرر نفس الأمر في غزة.. كانت القضية هي وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، لكن الوضع تغير تمامًا، وأصبح الأمر لا يتوقف عند غزة وحدها، بل يمتد إلى الضفة الغربية ثم مصر والأردن.
أغلب الظن، ترامب نفسه لا يملك خطة واقعية لتهجير مليونَيْن من سكان غزة. هو نفسه يعلم أن اقتراحه غير واقعي ويخالف القانون الدولي، ولا يحظى بتأييد كبير حتى في صفوف الأوروبيين. هو لا يستطيع تنفيذ مشروعه حتى ولو بقوة السلاح، لأن هذا سيضع إسرائيل في مواجهة مباشرة مع مصر.
وشخصيًا، لا أعتقد أن هناك خططًا جاهزة لإعادة إعمار غزة، التي تشير التقديرات الحالية إلى أن عمليات إعادة الإعمار فيها قد تحتاج إلى ما يصل إلى 80 مليار دولار و15 عامًا.
ترامب في النهاية مفاوض جيد، ويصف نفسه بأنه يستطيع أن ينهي أعقد الصفقات، وليس أحمق لِيُورِّط نفسه وبلاده في مستنقع الشرق الأوسط لدرجة التدخل المباشر على الأرض. وهناك من يفعل ذلك نيابة عنه، "إسرائيل". لقد هاجم ترامب بايدن بضراوة بسبب سياساته التي ورطت أمريكا وحلفاءها في الحروب المختلفة، فهل يأتي هو نفسه ليبدأ حربًا أخرى ويغوص في مستنقع جديد؟
يصعب تصديق الأمر، ويصعب التصديق كذلك بأن ترامب لم يتوقع الرفض القاطع لخطته بشأن غزة.
فلماذا إذن طرح خطة "ريفيرا غزة"؟.. أغلب الظن هو فقط يضغط بقوة كعادته لإتمام صفقة ما، وقد بدأ للتو بالعرض الأول في الصفقة. وفي التفاوض، يعلم الجميع أن العرض الأول عادة ما يكون قاسيًا بل ومتطرفًا، وفي الغالب يختلف كثيرًا عن الصفقة النهائية نفسها. اسأل أي بائع جيد في شوارع القاهرة عن هذا.
لقد خلصت إدارة ترامب، خلال الأيام القليلة الماضية، إلى أن عملية إعادة إعمار غزة المكتظة سكانيًا، والمدمرة كليًا، ستكون مستحيلة إذا بقي السكان في أماكنهم وظلت الحدود مغلقة. وفي حين كان الهدف النهائي لليوم التالي في غزة هو إزاحة حُكم حماس من القطاع بشكل نهائي لا يهدد إسرائيل في المستقبل، ظل السؤال في واشنطن: كيف يمكن أن يحدث هذا وقد فشلت العملية العسكرية الإسرائيلية سواء في تدمير حماس بالكامل أو حتى تحرير الرهائن؟
الأمر الذي أدى إلى تغيير مسار المفاوضات في غزة، وهو ما يتماشى إلى حد كبير مع أسلوب ترامب، حيث حثّ الأخير الدول العربية على توضيح سبب اعتقادها أن الحل الذي اقترحه غير قابل للتطبيق، وهو في انتظار عروض مقابلة سواء من مصر أو من الدول العربية مجتمعة.
ولذلك، فإن الرفض الشعبي لمقترحات ترامب، برغم أهميته، فإنه غير كافٍ. مجرد الرفض لا يصلح هنا، يجب التعامل مع عرض ترامب بعروض مقابلة. مؤتمرات «لا لتهجير الفلسطينيين» فحسب لن تكون كافية هنا. نحن لسنا في الستينات مرة أخرى، والقمة العربية المقبلة ستكون في القاهرة وليست الخرطوم، وشعارات "لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف" التي اعتدناها أكل عليها الدهر وشرب.
أقول هذا ونحن في مرحلة دقيقة وحاسمة، ليس في تاريخ القضية الفلسطينية فحسب، بل في تاريخ المنطقة أيضًا. يُتوقع من القادة العرب تقديم بدائل قابلة للتطبيق تعالج المخاوف الأمنية قبل الشروع في عمليات إعادة الإعمار. هذه الحلقة الجهنمية من التدمير والحرب ثم إعادة الإعمار لنعيد الكرة مرة أخرى، يجب أن تنكسر هذه المرة وللأبد. الاكتفاء بعرض استضافة مؤتمرات جديدة للمانحين لن يكون كافيًا، ما لم يقترن بخطوات عملية جدية للتعامل مع الوضع العاجل على الأرض.
ولعل أول خطوات إقرار السلام هي إزاحة حماس من حكم القطاع. لقد رفضت السلطة الفلسطينية نفسها، مؤخرًا، تشكيل لجنة مشتركة مع حركة حماس لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وأصرت على إدارة القطاع بمفردها. وهو أمر منطقي، فلماذا تعود السلطة للقطاع بعد أن جلبت حماس له الدمار، وألقت بعناصر السلطة أنفسهم من أسطح الأجهزة الأمنية في غزة عام 2007؟
وفي هذا الشأن، يمكن للدول العربية أن تلعب دورًا لحفظ الأمن والسلام، وضمان أن تقوم السلطة بواجباتها لحفظ النظام في غزة. كما يمكن إعادة دمج بعض العناصر المعتدلة في حماس في الأجهزة الأمنية الفلسطينية وفق عقيدة قتالية جديدة للدفاع عن الفلسطينيين والذود عن مقدراتهم، وليس عقيدة القاعدة أو التنظيمات المتطرفة لتوريط البلاد في حروب لا نهاية لها.
وفي نهاية المطاف، من غير المرجح أن يمضي ترامب في مخططاته بتهجير الفلسطينيين، لأن ذلك قد يكلفه أهم ما يسعى إليه، وهو التطبيع السعودي مع إسرائيل. لكن في الوقت ذاته، يجب أن تكون هناك عروض عملية مقابلة لعرض ترامب، بدلًا من الخوض في شعارات لن تؤدي إلى أي نتيجة سوى تفريغ شحنات الغضب بدون أي طائل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة