رواية "الخزّاف الطائش".. صخرة "سيزيف" الكردي
رواية "الخزّاف الطائش"، للشاعر والروائي السوري أديب حسن محمد، تحكي قصة وجع إنسان كردي سوري لا يملك إثباتاً كمواطن في أي مكان بالعالم
من شروط المأساة (التراجيديا) في الدراما الإغريقية أن "البطل التراجيدي يصعّد الأحداث حتى تودي به إلى حتفه".
في روايته الأولى "الخزّاف الطائش"، يكتب الشاعر والروائي السوري أديب حسن محمد، هذا العمل الأدبي، الصادر حديثا في 175 صفحة من القطع المتوسط، ليُسكننا في تلافيف قصة وجع إنسان كردي سوري لا يملك إثباتاً كمواطن في بلده ولا في أي مكان بالعالم، مصوراً رحلته المشؤومة للبحث عن العيش الكريم قاطعاً مئات الكيلومترات من مدينة القامشلي النائية في شمال شرق سوريا وصولاً إلى مدينة إزمير التركية، حيث طغيان الجنود الأتراك، للظفر برحلة غير شرعية إلى أوروبا ونيل لقب "لاجئ"، وخلال الرحلة تتلاطم الأحداث وتختنق المسافات وتتصاعد الأنفاس وتعلو الإثارة وتتجاذب المشاعر.
الحكاية.. فلسفة الألم
شخصيات إنسانية مؤثرة، لكن البطل الروائي "سامان" يرسم ويسرد ملامح الألم الكردي السوري بمعوله كإكسسوار روائي وظفه الكاتب لخدمة الشروط الفنية والتعبيرية الهائلة.
سامان الباحث عن فسحة أمل، الفاقد لهويته بفعل النظام السوري، الجريح الذي بات جسده ساحة للتشريح الطبي، يرتبط بقصة حب غير مكتملة مع "سوزي"، الفتاة الأرمنية المسيحية التي ترافق سامان في رحلته كطيف جميل وقاسٍ، وصولاً لجزيرة "كوس"، سيئة الصيت للاجئين باليونان، ليستقل البلم المطاطي، لكن نهايته المأساوية بغرق البلم بمَن فيه تضع حداً لتفاصيل سبقت وصوله تركيا.
هي قصة سامان، ابن حيّ "قدر بك" الشهير في القامشلي، الباحث عن نفسه، عن الإنسان، ورحلته مع مهرب اللاجئين "سمو"، هذه الرحلة تضيف الكثير لرصيده الحياتي-الخبراتي، وهو يتنقل بين المدن والقرى ويعقد علاقة مع الطرقات، هي فائض المشاعر والرؤية الثرية لطبيعة الخلق الفني، شخصيات مقنعة تلعب على العقل والوجدان في حكاية مرتبطة بالواقع أشد الارتباط بل تتجاوز الواقع أحياناً.. هي فلسفة الألم.
الشخصية الروائية.. البحث
بالتعمق في حبكة الحكاية وهي فلسفة البحث عن الحقيقة أو تجسيدها، يتراءى أمامنا مدى الألم الذي تعانيه شخصية سامان والأحداث المتصاعدة التي تُعطينا تفاصيل جغرافية وفكرية ونفسية هي خلاصة النص بهدفه ومضمونه، فالمؤلف، بذكاء لغته ومدى قوة نصه، يضع قارئه أمام وصف إجمالي تفصيلي للشخصيات متنقلاً من العام إلى الخاص وبالعكس، باللعب على العواطف والذكريات والتحليل الدقيق بالمقتضى السيكولوجي، فهي شخصيات بسيطة محدودة لا تشتت القارئ أو تدخله في غياهب ودهاليز التعقيد، مجريات تستعين بالوصف الداخلي الخارجي للشخصيات.
المكان الروائي.. التنوع
بالانتقال من الحبكة للمكان، فالأماكن المتنوعة أبطال في الرواية مثلها مثل الشخصيات وأي عنصر روائي آخر، بتوظيف الجغرافية المكانية والزمانية وبإبرة حادة من الخيال، فحيّ قدور بك "..الأكاديمية الأعرق، ففيه كانت تُحاك المؤامرات وتُعبأ الأكياس بالتراب الناعم استعداداً للهجوم على حي البشيرية المجاور، وفيه كان يتم التدريب على استعمال السكين الأشهر "موس الكباس" (ص11)، وكأي مكان آخر في الرواية، إلا أن القامشلي سيدة الأمكنة "المدينة المستريحة أقصى شمال شرق سوريا، تبدأ الفصول وتُحاك الدسائس وكأن صرة الكون مدفونة في قلب جقجقها أو كأن رائحة النفط تولم الجراد والغزاة" (ص14)، لذا تم الربط بين توصيف المكان والحالات الشكلية للمظاهر الخارجية، وبين الأزمنة المتناقضة في سوريا وتركيا وحياة الأكراد في الدولتين. لذا، جلي التلاعب على الأزمنة والأمكنة في الرواية، واستحضار الثورات والانتفاضات الكردية بين الماضي والحاضر، وعرض تفاصيل منطقة الجزيرة السورية وسوريا بمجملها برحلة باص ثم الانتقال لسوريا وتركيا، إنها فلسفة المكان الروائي التي وصفها الروائي بأن "جمال اللوحة لا يتأتى إلا بتضافر الألوان المختلفة وليس بسيادة اللون الواحد" (ص107).
لغة السرد.. الشعرية
الشاعر أديب حسن محمد يعتمد لغة سردية شعرية جميلة وخيالاً يؤثث لباقي العناصر الفينة، وبأصالة معاصرة يضع القارئ أمام حوار ولغة أدبية فكرية فلسفية وجودية، لا تترك صفحة إلا وتوظف فيه التاريخ الكردي وحتى الأرمني لدعم البناء الروائي "ليست صدفة أن تبدأ الحياة من قمة جودي بعد غرق الخليقة الأولى، وليست الصدفة أن تُخاض معارك الوجود كلها حول هذه البقعة الآهلة بالقلاقل مذ رست سفينة نوح" (ص13)، وكذلك قصص الحب الكردية العظيمة التي خُلدت في التاريخ مثل قصة "مم وزين" و"بائع السلال.. زمبيل فروش" و"سيامند وخجي"، وغيرها كقصص موازية للحب بين سامان وسوزي، بطلا الرواية "كردي مسلم وأرمنية مسيحية"، فـ "اللغات وحمات على وجهها الجميل وهي نص قابل لآلاف التفاسير" (ص48)، فالمؤلف شاعر.
المغزى الروائي.. الوجود والمصير
يصعب تحديد هدف أو رسالة واحدة، فبين يدينا عمل أدبي يقترب بمحتواه من "أسطورة سيزيف" وصخرته التي تأبى الحياة، للفيلسوف الفرنسي "ألبير كامو"، كرؤية فلسفية سكيولوجية وجدانية عاطفية مصيرية متجانسة، حكاية شعب ، فـ"توقف صوت المعول فجأة، توقف نشيج الكمنجة، وغادرت الوعول باتجاه السديم وانحسر الماء عن صورة قامشلي الناجية الوحيدة من برزخ الهذيان" (ص173)، هي حكاية معول كردي "في اليقظة مجرد معول عتيق وفي الحلم خزاف غارق في شهوة الطين" (ص68)، رواية المتعة والدهشة والإقناع، بعناصر وعناوين فرعية متنوعة تقضي على الملل، قصة التعايش الديني في القامشلي "تتعانق أبراج كنيسة الأرمن مع مئذنة جامع قاسمو" (ص105)، وجمال السرد "فيظفر بطيشه لغمان في آن واحد" (ص87)... إنها حكاية الأسلاك الشائكة، والمعول الكردي، ويقين القلب، وسهول ملاطية المليئة بالخشخاش، وسامان وانكساراته، والسائق والمهرب، ومآسي الكرد والأرمن، والبهجة القليلة.
مَن هو المؤلف؟
أديب حسن محمد، شاعر وطبيب كردي سوري، يقيم في العاصمة الإماراتية أبوظبي، من مواليد القامشلي، حصل على جائزتي سعاد الصباح والبياتي في الشعر.
وجاءت روايته "الخزّاف الطائش"، الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، بعد ثماني مجموعات شعرية منها "إلى بعض شأني"، و"موتى من فرط الحياة"، و"ملك العراء".