موسم صيد الغزلان.. جنون مايسترو بمصاحبة بيانو "شوبان"
قراءة في الرواية السادسة الصادرة حديثا للكاتب المصري أحمد مراد "موسم صيد الغزلان".
اترك جسدك بالخارج.. فالقاهرة ليست قاهرة اليوم ولا الأمس.. شوارعها.. وسائل الانتقال داخلها.. أهلها.. كلهم رحلوا.. لم يعد لهم أثراً.
اترك جسدك بالخارج.. وتأكد من ضبط عدسة الـAR الخاصة بك، فبدونها ستضل الطريق، ولن تتمكن من الركض في عالم "موسم صيد الغزلان".
عين ثالثة
المتابع لأعمال الكاتب المصري أحمد مراد يعي تماماً معنى "الركض" في قاموس رواياته، فهو يدفعك عبر صوره البصرية المشتبكة للهث لتتبع إيقاعه، والتوقف أحياناً لمحاولة استيعاب الحُفرة التي يوقعك فيها.
فلا عجب أن تشعر بالدوار وأنت تستوعب أن رواية "موسم صيد الغزلان"، الصادرة أخيراً عن دار "الشروق" المصرية، تدور في عالم زمني ينتمي للمستقبل البعيد، المستقبل بمفرداتٍ تقنية مرعبة، فأنت هنا أمام عالم يرتاد الطائرات الذكية، يُزامل الروبوت، يحتفل باقتراب المُذنبات، يتنفس المحيط الخارجي بواسطة عدسة "العين الثالثة" التي تُزاولك ولا تخلعها أبداً، وإلا ستفقد حواسك تقريباً..ذاكرتك..أحلامك خلال النوم.. مشاعرك.. ووسيلتك في التخاطب مع البشر من حولك.. عالم أصبح فيه "سرعة الذكاء الصناعي للروبوت سبعة وسبعين مليون مرة أسرع مننا كبشر"، حسبما يُحاضر نديم بطل الرواية، وهو يتحدث بزهو عن صنيع الإنسان الخارق للروبوت، الذي تحدى أنه يمكن تطويره ببساطة ليصبح كائناً له مشاعر، بوصف المشاعر مجرد تفاعلات كيميائية فقط.
عُزلة
يُضاعف مراد، 1978، من جرعة العزلة والاغتراب في روايته السادسة الأحدث، بأن جعل بطله نديم ومحور عالم "موسم صيد الغزلان" هو أحد أشهر علماء عصره في البيولوجيا وعلم النفس التطوري، نديم الذي لن تراه في الرواية أبداً في معامل البيولوجيا المتطورة، ولكن ستستمع له مُحاضراً شهيراً يتماهى مع أفكاره على مسرح روماني الطراز، مستعيناً بالإضاءة الخافتة ليزيد من حالة الترقب والصدمة التي يُثيرها لدى الحضور بسبب أفكاره الإشكالية عن الخلق والوجود والأديان ونظرية التطور،التصميم الذكي للبشر، والعِلم ثم العِلم ثم العِلم.
نهاية العالم
في عالم نديم ستعتاد تدريجياً على حضور "النانومترات" و"الهولوجرامات" وعملات "البيتوكوين"، تُضاعف تلك المفردات المستقبلية من اغترابك وأنت في بداية مطالعتك للرواية، المكان.. الزمان..البشر.. الحُب..كل شئ يمر هنا عبر وسيط..لا شيء شفاف وبسيط، كل شخص يتناول حبوباً لمنع الشيخوخة، ومزروعة بداخله شريحة تحتوي على كل معلوماته، كل شخص يرتدي نظارة إلكترونية ليمكنه من التعرف على أفكار الآخرين.
تلمس فتوراً لافتاً من الصفحات الأولى في علاقة نديم بابنته سُلاف المنعزلة، وزوجته الشاردة مريم التي تؤمن بالكواكب والأبراج، يُحدث نديم نفسه ويقول "تغيرت ثلاث مرات خلال عشرين سنة، وأنتِ في مكانك، تهيمين في النجوم كمرصد قديم لم يعد يُستعمل، أثر هش باقٍ يأبى السقوط، ويرفض الترميم".
جائزة البوكر 2014
يبدأ موسم الصيد فتتصاعد أحداث الرواية إلى حد الجنون الكامل، جنون يحترف مراد صناعته وحبكته، وقاده عام 2014 للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، عبر روايته "الفيل الأزرق"، التي قال رئيس اللجنة آنذاك سعد البازعي إنها "رواية تُوظف عوالم غرائبية تمتزج بها عالم الطب النفسي بعوالم السحر والشعوذة والمخدرات".
وأضاف رئيس اللجنة أن "الرواية عبارة عن مونولوج طويل يدور داخل عقل البطل بنا إلى عوالم غرائبية يصعب تمييز الحقيقة فيها من الخيال".
مرة جديدة يستعين مراد في روايته السادسة "موسم صيد الغزلان" بالجنون المتفجر داخل العقل الباطن للبطل، لطرح أسئلته وإعادة ترتيب العالم، وخلق حالة اشتباك بين ثيمات الرواية وصراع أبطالها الفكري العنيف، والتنقيب داخل تاريخ البطل النفسي والروحي، وهو أشد المعادين لفكرة الروحية.
ويخلق المؤلف من أجل ذلك شخصيات محرضة على تفجير هذا الجنون الدفين في عقل البطل الأشبه بغابات الثليج.
فيلا شوبان البريَة
هناك مثل بالعامية المصرية يقول "جيت تصيده صادك"، فنديم صاحب الصوت الأعلى والمستحوذ على ألاعيب السحر في الصيد ونصب الفِخاخ، يقع طُعما لبطلي الرواية الآخرين طارق هارون والفاتنة "تاليا"، زوجة طارق، تلك الغجرية الطابع التي تضع وشماً للبيانو، وتكتسي بملامح جدتها الاسكتلندية، والكمال المثير للشكوك، تلك التي يُربك مراد قارئه بأن يجعلها تظهر في مطلع الرواية كبطلة حلم متكرر يرواد نديم وكأنها جنية تظهر من قاع البحر، حتى يُفاجأ بظهورها في الواقع وهي تحضر إحدى محاضراته الصاخبة مع زوجها طارق.
يتحول قاموس مفردات الرواية فجأة إلى قاموس يحاكي "ناشيونال جيوجرافيكس" وعوالمها البرية، تتحول تالياً لغزالة، نديم يتقمص ذهنية وغريزة المفترس، ويدوّن بخلفيته كعالم بيولوجيا نظرياتٍ عن صيد الغزلان.
اترك جسدك بالخارج
وكما المثل العامي المصري المشار إليه، يعتزم نديم الاقتراب من عالم تالٍ، ويقبل دعوة زوجها طارق لزيارتهما في مقرهما الغامض الذي يُطلق عليه "الملاذ" وشعاره: "اترك جسدك بالخارج".
قبول نديم الدعوة كان المنحنى الوجودي الذي لن يصل بعده أبداً إلى نقطة البداية، يملأه "الملاذ" بالفضول، المكان البعيد الذي يُمنع فيه تماما استخدام العدسات والوسائط الحديثة في التواصل، ويوافق نديم على خوض تجربة روحية خلال إقامته في "الملاذ" وفي المقابل يُثمن طارق، صاحب الملكية الفكرية لتلك التجربة، أن يمنح نديم بيانو "شوبان" الأصلي الذي اشتراه والده من أحد المزادات الشهيرة بباريس، ويضعه في مقر "الملاذ"، والذي أبدى نديم اهتماماً شديداً به فور دخوله.
يصبح "البيانو" ثمناً لتلك التجربة، التي تُخالف تماماً عقائد نديم غير المؤمن سوى بالعلم والنتائج، وإن كان السبب الحقيقي وراء خوض التجربة كان التقرب من تاليا، التي تُسفر أحداث الرواية عن حقيقة هويتها، وكذلك أسباب حرص طارق الشديد على خوض نديم هذه التجربة حد الموت.
موجات النوم
تستعر أحداث الرواية التي تقع في 333 صفحة، منذ اليوم الأول لخوض نديم التجربة، يدخل غُرفاً، يواجه موجات نوم دلتا، يدخل غرفة ألفا، غرفة الخواء، أحجار أماثيست، يتأمل شجرة عتيقة، يرى والده وأمه في مساحة من الهلاوس، في الخلفية دائماً كان صوت موسيقى شوبان تُعزف على البيانو الخاص به.
تركض الخيالات، وتعجز كثيراً عن تمييز الخيالي من الحقيقي، ليس عجزك وحدك كقارئ، وإنما عجز البطل نفسه، نديم الذي تُحوله التجربة من مفترس حاد البصر إلى تائه فاقد الاتزان، تائه تفقده التجربة هويته، ما بين النوم واليقظة كانت روحه تهيم بين الرزنامات، بين الملامح.. فهو حدّاد تلازمه النار، وتارة أخرى حاخام يهودي..وأحياناً حاوي.
المحاضرة الأخيرة
طارق هارون و"تاليا"، كانا المُحرضين على إعادة ترتيب أوراق الرواية، تتصاعد شفرات الرواية مع خوض نديم تجربة "الملاذ"، وتُسفر عن وجه نقيض جداً لطارق وتاليا مع اقتراب نهاية أحداث الرواية، خلافاً للظهور الوديع والساحر الذي صاحب ظهورهما في حياة الدكتور نديم، الذي يستكشف لأول مرة عالماً موازياً لحياته، وإجابات محتملة لفراغات داخل نفسه بما في ذلك فتور علاقته بزوجته مريم، وجمود علاقته بابنته سُلاف.
إجابات يصل إليها نديم بوسائط سوريالية ترتكن كثيراً على نظريات "الديجافو" ،مشاهدة أحداث شوهدت من قبل، تنتهي بقتل نديم لمرة جديدة، بعد أن مات مرات في عوالم أخرى، حتى تراه من جديد يُُحاضر على المسرح الروماني، وتستمع منه لمحاضرة جديدة، ولكن هذه المرة بتساؤلات جديدة أقل صدمة وأكثر تحليقاً.
aXA6IDEzLjU5LjIwNS4xODIg جزيرة ام اند امز