مستقبل غامض.. هل يتم إغلاق قاعدة إنجرليك الجوية؟
العلاقات التركية الأمريكية تشهد توترا غير مسبوق، كشف عنه تلويح واشنطن بالبحث عن بدائل لقاعدة إنجرليك الجوية
أنهت شركة فيكتروس الأمريكية المسؤولة عن العمليات وخدمات الصيانة في قاعدة إنجرليك الجوية جنوبي تركيا، يناير/كانون الثاني الجاري، عقود 424 موظفا من بين 890، وهو ما أثار تساؤلات عن مستقبل القاعدة، خاصة أن هذا التوجه تزامن مع تهديدات سابقة أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإغلاق القاعدة التي تحوي داخلها عددا من الرؤوس النووية الأمريكية.
وجاءت التهديدات في إطار الرد على العقوبات التي مررها الكونجرس في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقرار مجلس الشيوخ الأمريكي الاعتراف بمجازر الأرمن "إبادة جماعية"، وكذلك رفع الكونجرس الحظر المفروض منذ عقود على تزويد قبرص اليونانية بالأسلحة، في خطوة تنطوي على تحدٍّ لتركيا عبر السعي لتعزيز العلاقات الأمريكية مع الجزيرة المتوسطية.
وتشهد العلاقات التركية الأمريكية توتراً غير مسبوق، وكشف عنها تلويح واشنطن بالبحث عن بدائل لقاعدة إنجرليك، من بينها الأردن والكويت، فضلاً عن عدم تسليم تركيا مقاتلات "F35" الأمريكية بسبب شرائها منظومة الدفاع الصاروخية S-400 الروسية.
في هذا السياق، أصبحت قاعدة إنجرليك الجوية إحدى الأوراق التي يسعى كل طرف لتوظيفها للضغط على الآخر، فبينما تهدد أنقرة بإغلاقها، تقول واشنطن إنها تفكر في بدائل آمنة، وظهر ذلك في قيام الولايات المتحدة بإبرام اتفاقية دفاع غير مسبوقة مع اليونان، ويتم تمركز قطع بحرية أمريكية على إحدى القواعد العسكرية فيها.
غير أن التهديد التركي بإغلاق القاعدة، وحديث واشنطن عن بدائل مناسبة، ربما يأتي في سياق الضغوط والضغوط المضادة في ظل تصاعد حالة التوتر بين البلدين، خاصة أن كليهما يحرص على استمرار عمل إنجرليك التي منحت أنقرة وضعاً خاصاً في التفكير العسكري الأمريكي، وفي المقابل توفر ميزة استراتيجية للنشاط العسكري الأمريكي في مناطق الصراعات في الشرق الأوسط وآسيا.
والأرجح أن التفكير في إعادة النظر في مستقبل إنجرليك، أو التهديد بإغلاقها لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق أن اتهمت أنقرة ضباطا أمريكيين بالمشاركة في محاولة الانقلاب الفاشلة يوليو/تموز 2016، ووعدت بإنهاء وجودها على الأراضي التركية.
وفي عام 1975، أصدر مجلس النواب الأمريكي قراراً بمنع تزويد تركيا بالسلاح، بسبب ما قاله المشرعون الأمريكيون حينها إن أنقرة استخدمت معدات وأسلحة أمريكية في قرار غزو أجزاء من قبرص، وسرعان ما ردت تركيا بإغلاق "إنجرليك"، لتحرم تركيا من نقطة استناد استراتيجية في عملياتها العسكرية. لكن واشنطن نجحت خلال عام 1978 في إقناع أنقرة بإعادة الاستفادة من القاعدة.
تراجع فرص الإغلاق
على الرغم من توجه شركة فيكتروس للاستغناء عن بعض موظفيها العاملين في إنجرليك، وتهديد النظام التركي بإغلاقها على خلفية التوترات مع واشنطن؛ فإن هذا التوجه يبدو بعيداً لاعتبارات متعددة، يمكن بيانها على النحو الآتي:
أولها: حرص الإدارة الأمريكية على تهدئة مخاوف النظام التركي، وهو ما ظهر في تأكيد وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" أنها تبذل جهوداً للحفاظ على العلاقات مع تركيا. وقال البنتاجون في بيان له إن "الوجود العسكري الأمريكي في هاتين القاعدتين يجري بموافقة الحكومة التركية"، وأضاف: "ننظر إلى وجود قواتنا في تركيا كرمز إلى التزامنا طويل الأمد بالتعاون، وحماية حليف لنا في الناتو وشريك استراتيجي لنا".
في المقابل يبدي الرئيس دونالد ترامب معارضة شديدة لفرض عقوبات على أنقرة، وقد يتجه إلى تفعيل الفيتو الرئاسي ضد قانون العقوبات الذي صوت عليه الكونجرس حال رفعه ليوقعه. كما أعلن البيت الأبيض أنه لا يعتبر عمليات القتل الجماعي للأرمن في عام 1915 "عملية إبادة"، وذلك في مسعى لاسترضاء تركي.
والأرجح أن ثمة حرصا أمريكيا على ضمان استمرارية العمل في القاعدة التي تشكل منطلقاً لعمليات عسكرية أمريكية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط. وتستخدم القوات الجوية الأمريكية والتركية قاعدة "إنجرليك"، في إطار اتفاقية التعاون العسكري والاقتصادي بين الدولتين في عام 1956 للاستخدام المشترك للقاعدة. ويسهّل موقع القاعدة المهام أمام الطائرات التي تقلع منها؛ فهي قريبة من روسيا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط. ولا تبعد "إنجرليك" سوى 150 كلم عن الحدود السورية، ونحو 30 كلم عن البحر الأبيض المتوسط.
وثانيها: تدرك تركيا أنها الخاسر الحقيقي من إغلاق القاعدتين، خاصة أن واشنطن تبحث منذ مدة -ولو بشكل غير رسمي- عن بدائل لتركيا، وتتواصل مع الأردن والكويت واليونان في هذا السياق، فضلا عن وجود قاعدة القيارة في العراق. ويبقى سلوك ألمانيا نموذجاً لدى واشنطن، حين عملت على إعادة تموضع قواتها من "إنجرليك" إلى قاعدة "الأزرق" بالأردن في يونيو/حزيران 2017، عقب رفض أنقرة السماح لبرلمانيين ألمان بزيارة جنود بلادهم في القاعدة.
ومن دون شك، فإن توجه واشنطن للبحث عن بدائل لا يمكن فصله عن التصعيد المستمر بين واشنطن وأنقرة، خاصة في ظل تصاعد القضايا الخلافية، لتشمل التهديد المستمر بإغلاق القواعد الأمريكية على الأراضي التركية.
وثالثها: إدراك تركيا أن هناك مجموعة من المصالح المتبادلة مع واشنطن، قد تدفعها إلى تحجيم التوتر القائم مع الولايات المتحدة، وهو ما يحول دون إقدام أنقرة على إغلاق القواعد الأمريكية. كما تعي أنقرة أن واشنطن تمثل لها حليفا استراتيجيا مقارنة بموسكو التي تعتبر من وجهة نظر أنقرة حليف ضرورة.
وتمثل الأزمة السورية نقطة الارتكاز بين البلدين، وفيما عدا ذلك فإن ملفات الخلاف أكثر من ملفات التوافق، ويؤشر على ذلك الخلاف التاريخي الممتد بين البلدين، إضافة إلى التمدد الروسي في منطقة البحر الأسود، ودعم موسكو للجيش الوطني الليبي، وهو ما تعده أنقرة تهديداً لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية.
ويرتبط العامل الرابع بسعي الولايات المتحدة إلى حلحلة الخلافات مع أنقرة لمواجهة الضغوط المزدوجة، فمن جهة ترى واشنطن أن تمركز قواتها في "إنجرليك" يحمل أولوية خاصة في مواجهة التهديدات في منطقة الشرق الأوسط، كما توفر للولايات المتحدة سرعة التدخل في مناطق الصراعات، وتوفير الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية المنتشرة على مسافات قريبة من قواعدها على الأراضي التركية.
كما تمثل قاعدة "إنجرليك" نقطة استناد مهمة في استراتيجية واشنطن الدفاعية التي تركز على مواجهة النفوذ المتصاعد لروسيا والصين، خاصة مع توجه موسكو للتوسع في بناء قواعد عسكرية في سوريا.
ضغوط مؤثرة
رغم مستقبل مرتبك لقاعدة إنجرليك الجوية، وتصاعد توظيف النظام التركي للقاعدة في مواجهة الضغوط الأمريكية؛ فإن واشنطن تملك عددا معتبرا من الأوراق التي تستطيع تقليص ابتزاز تركيا لها من خلال "إنجرليك":
زيادة الدعم للأكراد: قد تتجه واشنطن إلى إعادة صياغة علاقاتها مع قوات سوريا الديمقراطية، وزيادة دعمها في مواجهة الضربات التركية لها. والأرجح أن مثل هذا الدعم يثير مضاعفة المخاوف الأمنية والسياسية لدي تركيا، التي تخشى زيادة القوة العسكرية للأكراد في المنطقة عموماً، وبخاصة حزب العمال الكردستاني في جنوب شرقي تركيا، الذي تصنفه حكومة أنقرة كيانا إرهابيا.
عقوبات اقتصادية: قد تتعرض تركيا لعقوبات اقتصادية إضافية من واشنطن، لتطال كيانات وشركات وشخصيات تركية أخرى، وذلك بعد رفع تركيا في مايو/أيار 2019 من نظام الأفضليات التجارية الذي كان يسمح لتركيا بدخول بعض منتجاتها للسوق الأمريكية من دون تحصيل عوائد جمركية. ويعاني الاقتصاد التركي من أزمة غير مسبوقة بعدما فقدت الليرة نحو ثلث قيمتها أمام الدولار منذ أغسطس/آب 2018 على خلفية عقوبات رمزية فرضتها واشنطن قبل أن تفرج أنقرة عن القس الأمريكي برونسون.
تجميد برامج التعاون العسكري: ربما تندفع السلطات الأمريكية نحو تقليص برامج التعاون العسكري، وهو ما حدث عندما قررت واشنطن استبعاد أنقرة من برامج إنتاج المقاتلة "F35"، ناهيك بالتردد في منحها منظومة الدفاع الصاروخية "باتريوت".
ختاماً يمكن القول إن التوجه الجديد للشركة الأمريكية بتسريح عدد من الموظفين العاملين في القاعدة لا يعني تصاعد فرص إغلاق القاعدة أو تقليص أهميتها، فثمة حرص تركي- أمريكي رغم القضايا الشائكة بين البلدين على استمرار القاعدة التي توفر ميزات استراتيجية للطرفين. لذلك فإنه من المستبعد اتجاه واشنطن رغم إقالة عدد من موظفي القاعدة إلى تقليص أهميتها.
كما أن أنقرة، رغم تهديدات أطلقتها، لا تريد إنهاء عمل إنجرليك، فقد تسعى إلى توظيفها في محاولة استيعاب الضغوط الأمريكية المناهضة لجانب واسع من السياسات الخارجية التركية في مناطق النفوذ والصراعات.
aXA6IDE4LjIyNi4xODYuMTUzIA== جزيرة ام اند امز