رغم أنّ الالتزام بالاتفاقات الدولية يخضع لمعادلة القوة والضعف المتغيرة، فإن هذه الاتفاقيات تخلق توازنات دولية بين القوى العظمى، على مبدأ مسك العصا من المنتصف في الركون إلى الوضع العالمي المتوازن فيما يتعلق النفوذ والقوة العسكرية.
ووفق هذه المسلّمات جاءت معظم الاتفاقات العالمية ولا سيما تلك المتعلقة بسباق التسلّح، وعلى رأسها معاهدة (حظر تجارب الأسلحة النووية) المتفّق عليها منذ عام 1996، في أعقاب الحرب الباردة، مما أعطى فرصة للقوى العالمية من أجل الالتفات إلى التنمية الاقتصادية وتخفيض ميزانيات التسلّح، لكن يبدو أنّ ذلكَ سيكون من الماضي، فالعالم اليوم على أعتاب مرحلة جديدة لتغيير معالم القرن الواحد والعشرين.
فبعد إعلان روسيا قبل يومين إنهاء التزامها بهذه الاتفاقية بعد ما يقارب ثلاثين عاماً على سريانها، أصبح العالم أجمع أمام امتحان صعبٍ من جهة، وبمواجهة مزالق شديدة الخطورة من جهة ثانية؛ لما تحمله هذه الخطوة من تداعيات خطيرة على عدة مستويات؛ ومنها:
أولاً: انتشار الأسلحة النووية: إن التجارب النووية لم تتوقف نهائياً بموجب اتفاقية حظرها؛ إلا أنها بقيت محصورة وعلى نطاق ضيق بما يضمن توازن القوى، لكن نقض الاتفاقية يعني العودة إلى هذه التجارب بقوة ونشاط كبيرين في روسيا، ما سيفتح الباب أمام جميع الدول النووية لزيادة هذا النشاط وما سينتج عنه من تعاون بين القوى المختلفة اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً من أجل التسابق في هذا المضمار المُكلف والمُعقّد، وبالتالي ستدخل تحالفات جديدة إلى ميدان هذا الصراع، لأنّ القلق لن يبقى في إطار النفوذ وحسب وإنما سيتحول إلى القلق على الوجود وهو ما سيؤدي إلى ولادة قوى نووية جديدة، لا سيما أنّ نشاط التجارب يعني أنّ الأسلحة النووية ستشهد قفزات كبيرة في التطور، وتغيير خارطة النفوذ بين القوى العظمى مع القوى المجاورة لها التي ستستغل أي فرصة لامتلاك هذه الأسلحة، فسيكون شعار المرحلة: (أتحالف مع من يزودني بالأسلحة النووية).
ثانياً: إعادة هيكلة التوازنات الدولية واحتدام سباق التسلح: فبسبب المستوى الأول الذي ذكرناه سابقاً، وبسبب البحث عن موارد اقتصادية وعلمية في هذا المجال (النووي) ستفتح القوى العظمى الباب واسعاً أمام استقطاب حلفاء الأطراف المختلفة، وتقويتها بالتسلح لخطب ودها من جهة ولإضعاف الطرف المقابل من جهة أُخرى؛ من أجل الاستعداد للمواجهة المباشرة والكبيرة التي ستقع في أي لحظة، ما سيخلط أوراق التحالفات الدولية القائمة منذ عقود، وما سيترتب عليه من اضطرابٍ وخلل في هذه التوازنات التي قد تشهد تطورات وتغيرات متسارعة في البحث عن الأسلحة والتحالفات الضامنة لوجودها. ولا شكّ بأنّ ذلك سيتبعه تغيرات جسيمة في خارطة النفوذ بين القوى النووية، وقد يسهم في ظهور قوى جديدة وأفول قوى قديمة.
ثالثاً: تحول الحرب الباردة إلى حرب دافئة: إذا كانَ العقد الأخير من القرن العشرين قد شهد حرباً باردة تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية الساخنة، فإنّ القرن الواحد والعشرين اليوم على موعدٍ مع حرب دافئة، ونقول دافئة لأنها ليست باردة تتعلق بسباق تسلح بين قطبي المعادلة العالمية (روسيا والولايات المتحدة) فقط، وليست ساخنة تعني المواجهة العسكرية المباشرة بين الطرفين، وإنما هي بين بين؛ فهي أكثر من باردة لأن انتشار الأسلحة النووية وبناء التحالفات الجديدة سينتج عنه مناوشات متعددة بين حلفاء هذين القطبين فيما بينهم بحثاً عن القوة وحجز مقعد بين الدول القوية، كما أنّ ذلك سيؤدي إلى دخول القوى الطامحة في القطبية إلى مضمار السباق وبناء كيانات قوية لها على خارطة النفوذ العالمي مستغلة هذا الاضطراب في حلحلة قضاياها العالقة سياسياً وعسكرياً من أجل الصعود إلى عرش القطبية.
فهذا يعني أنّ ما قبل الالتزام باتفاقية حظر التجارب النووية ليس كما بعده، وأنّ النظام العالمي المتوازن بات أقرب إلى الانهيار منه إلى الاستقرار، كما أن ذلك يعني أنّنا أمام مرحلة جديدة وخطيرة تُنذر بأن الأسلحة النووية ستكون بمتناول الجميع، وأننا أمام تجارب جديدة وفريدة قد تجعل من الأسلحة النووية مجرد أسلحة تقليدية أمام ما ستتمخض عنه هذه التجارب في المستقبل القريب، بالإضافة إلى دخول مرحلة الحرب الدافئة لاستنزاف الطاقات والقوى، وهو ما يجعل التحول إلى الحرب الساخنة والشاملة حقيقة واردة في أيّ لحظة وليست مجرد توقعات وتحليلات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة