لم أر اسمين لهما سحر وتأثير على الناس، خاصة في الغرب، مثل هذين الاسمين، تيمبتكو، مسقط رأسي، وليوا، الاسم الذي أراه معبرا عن الإمارات.
هذه الواحات الفاتنة بظلال نخيلها الوارفة وحبّات رُطَبها الطيبة.. هي رحم خرجت منه الإمارات وروحها إلى العالم.
"أنت محظوظ جدا صديقي".. كانت هذه عبارة عالم فضاء أمريكي، التقيته سريعا في مطار مدينة "تيمبتكو" قبل أكثر من عقد.. سألني: من أين أنت؟
أجبته: من هنا.
قال: هل تمزح معي.. لا تبدو من هنا.. أنت مرتاح جدا فيما يبدو لي؟
قلت له: حسنا فعلا.. هنا موطني ومولدي، لكني تركته طفلا.. وأتيت سائحا مثلك الآن للتعرف إليه.
قال: إذاً من أين قدمتَ..؟
قلت له: من الإمارات..
قال: "أوووووه بلد النخلة الكبيرة التي تُرى من الفضاء.. وأطول برج.. والواحات الفاتنة.. أنت محظوظ جدا صديقي.. ولدتَ هنا حيث التاريخ والأساطير.. والآن تعيش في المستقبل".
يا إلهي! لم أشعر قط بغبطة العيش في الإمارات حتى كان ذلك الحديث مع عالم غربي.
لم تكن هذه قصة يتيمة، لكن خلال أسفاري ولقاءاتي مع أجانب كثر رأيت تأثير موطني تيمبتكو في الثقافة الغربية بشكل لا يصدق، مثل تأثير اسم الإمارات اليوم تماما بدُرّتيها "أبوظبي" و"دبي"، المدينتين الحلم.
كانت تيمبتكو مهد الذهب، الذي فتن العالم، وموطن مئات الجامعات العلمية المشتغلة بشتى العلوم، وكانت موطنا للعرب والأمازيغ والأندلسيين والمصريين، وجميع الطامحين للمعرفة والثراء، وكانت قصة تيمبتكو قد وصلت إلى بلاطات أوروبا والعالم، وكان جميع أباطرة أوروبا يحلمون بغزوها للاستيلاء على ذهبها، وحينها رسمت الخرائط وأرسل مئات الجواسيس دون جدوى.. وهكذا أصبحت المدينة أسطورة يمتنع غزوها.
اليوم توارت تيمبتكو بكل إرثها خلف رمالها الذهبية، وأصبحت نسيا منسيا، لكننا في الناحية الأخرى نشاهد اليوم ميلاد تيمبتكو أخرى، وقبلة جديدة للعالم، بمثل ما كانت تيمبتكو قبل قرون.
كانت الإمارات قبل عقود عبارة عن واحات وشواطئ، وكان رزق الرجال وحياتهم تعتمد على البحث عن اللؤلؤ في البحر والصيد منه لمعيشتهم، ثم التوجه بعدها بما جنوه من الأرباح إلى واحاتهم لغرس نخيلهم وسقايته والاهتمام بإبلهم.
والأروع أن الشخصية الإماراتية، رغم كل الانقلابات المادية التي غيرت حياتهها، لا تزال شديدة التمسك بواحاتها وكثبانها الرملية، وبمواسم جني الرطب، وسباقات الإبل.. فلا نكاد نرى إماراتيا لا يملك سيارة دفع رباعي تؤمّن له الوصول والتوغل إلى مرابع قبيلته وموطن أجداده، حيث استمر الأبناء في تعقب النجوم والتعرف على الكثبان ومتاهات الصحراء كما كان أجدادهم، ذلك وهم في المقدمة بطموح لا يعرف الكلل لغزو الفضاء وحجز مقعد دائم بين الدول المتقدمة.
حضور تيمبتكو والإمارات في ذات الوقت مدهش للتشابه التاريخي، كلتاهما سعتا إلى التطور عبر العلوم، والتجارة واستقبال العلماء والمبدعين من جميع الجنسيات، وكلتاهما كانت أسطورة زمانها ووصل اسمهما إلى الآفاق.
استحضرتُ كل هذا وأنا أجول في أروقة "إكسبو 2020"، حيث حط العالم رحاله، ليتبادل المعرفة، كما كانت قوافل الإبل تحط في تيمبتكو قبل قرون للتبادل العلمي والتجاري.
افتقدتُ تيمبتكو ورمالها كثيرا.. تمنيتُ أن تتاح لي فرصة زيارتها كل عام، إلا أن وحش الإرهاب المنفجر حولها حال دون ذلك، لكنني حين وجدت قلمي قد جفّ وقريحتي قد توقفت، ما لبثت أن توجهت إلى صحراء الإمارات وكثبانها علها تسعفني وتلهمني الكتابة عن تيمبتكو.. وكانت خير عزاء وأروع موطن لغريب منقطع مثلي.
وكانت ليالٍ عدة قضيتها في الصحراء الإماراتية تحت النجوم كفيلة بعودة تلك القريحة.. فضلا عن الشخصية الإماراتية، التي تعتبر مثالا في الدماثة والتواضع والكرم.. شخصية غير مأزومة، تذكرني بكل ما كان عليه أهلي في الصحراء.. الصحراء التي كتبتُ عنها بضع روايات، أتمنى من الله أن يمنحني الصحة والوقت لأكتب مثلها عن واحات ليوا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة