قراءة في دلالات توقيت صدور مذكرات الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما وارتباطها بانتصار المرشح الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية.
في تلك المجتمعات المستقرة المتربعة في سكينة وهدوء على سطح العالم؛ هناك نخبة كامنة في موقعها المتعالي تراقب العابرين في الأزقة والحواري، والجالسين على الأرصفة في خمول طويل، لا تكترث كثيراً بالضوضاء التي يثيرونها، لأنه لا تصل إليهم، ولا ينصتون لها، يفكرون في هدوء شديد، ويخططون لأزمان طويلة تمتد لعقود وقرون، ويتحركون بخطوات محسوبة بدقة شديدة؛ مثل خطوات الوزير أو الملك في لعبة الشطرنج، لذلك ينبغي ألا تؤخذ تحركاتهم بظاهرها، أو بمحتواها، وإنما ينبغي أن يتم التفكير العميق فيما وراءها، ويكون أول سؤال: لماذا هذا الشيء يحدث الآن؟ أو بعبارة أخرى: لماذا صدر كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق وليس السابق الآن؟
سؤال يثور مع الاهتمام المبالغ فيه من الطبقة الثقافية في العالم العربي بكتاب باراك أوباما.. لماذا الآن؟.. وقد يقول البعض: ولماذا ليس الآن؟ مدافعا عن حق أوباما أن يختار الوقت الذي يشاء لإطلاق كتابه، ولكن السياق السياسي الذي جاء فيه إطلاق الكتاب بقوة وعلى مستوى العالم لتقترب المبيعات من مليون نسخة في الساعات الأولى لخروجه للجمهور، يقول إن وراء الأَكَمَة ما وراءها، وأن الكتاب ليس مجرد مذكرات لرئيس سابق، وإنما قد يكون بعضاً من خارطة طريق لرئيس قادم؛ كان نائبا للرئيس السابق.
يثور هذا السؤال لأن هناك العديد من التقارير التي تناولت بالتحليل شخصية الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، مركزة على افتقاده للشخصية القيادية، والكاريزما اللازمة لمن يتولى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن خبراته السابقة، وعمره المتقدم، وضعف شخصيته قد ينبئ بأن فوزه بالرئاسة سوف يعني استدعاء باراك أوباما ليقوم بأدوار معينة من وراء الكواليس، ويكون هو الرئيس الأمريكي الفعلي مع جو بايدن الذي كان نائباً له.
هذه التقارير نشرت قبل صدور كتاب أوباما يوم 17 نوفمبر 2020، وأكدها ظهور الكتاب بهذا العنوان المثير "أرض الميعاد"، وبهذا الكم المثير من المواقف الخاصة بالعالم العربي، التي تعيد التذكير بنفس الأفكار والسياسيات التي أدت إلى تفكيك العديد من الدول العربية، والعبث بمصير شعوبها في لعبة خطيرة كان بطلها السيد باراك أوباما؛ الذي أثبت الكتاب أنه شخص ساذج لا يستطيع رؤية العالم من خارج القفص الأمريكي الذي سجن نفسه فيه، والذي يقيس كل شيء في العالم على مقاسه، وبنفس معاييره، ولم يستطع أن يفهم السياقات الثقافية والتاريخية، والاجتماعية للمجتمعات والدول والشخصيات التي تحدث عنها.
العنوان الذي اختاره أوباما لكتابه "أرض الميعاد" عنوان مثير للجدل بصورة مستفزة للغاية؛ فأي أرض؟ وميعاد من؟ ولمن؟ فهي ليست أرض الأحلام كما كانت تعرف أمريكا في القرون الأخيرة، وإنما أرض الميعاد بمدلولها الغيبي أو اللاهوتي. وهذا المصطلح "أرض الميعاد" لم يطلق إلا على فلسطين عند اليهود، وعلى أمريكا عند المهاجرين الأوائل من المتطهرين Puritans البروتستانت الهاربين من الجزر البريطانية إلى العالم الجديد؛ الذين وصلت أفواجهم الأولى على ظهر السفينة مايفلور Mayflower عام 1620 إلى شمال شرق الولايات المتحدة. أولئك المتطهرون البروتستانت كانوا ذاهبين إلى أرض الميعاد، هاربين من بطش فرعون الذي هو في نظرهم ملك بريطانيا، ومتوجهين لتأسيس كنيسة في العالم الجديد، وهم أول وآخر من أطلق على أمريكا أرض الميعاد، وقد رصد تاريخهم المفكر العربي الدكتور "منير العكش" الذي قضى أكثر من نصف قرن في دراسة تاريخ الشعوب الأصلية في شمال أمريكا الذين تمت إبادة 112 مليونا منهم على يد المهاجرين المتطهرين، معتمدا على الوثائق الأمريكية التاريخية المحفوظة في الأرشيف الوطني في واشنطن العاصمة، ومن أهم كتبه في هذا الخصوص "تلمود العام سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا"، والكتاب الثاني "حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية".
فأي أرض للميعاد يقصد أوباما؟ هل هي عودة للمفاهيم القديمة مع توسيع تطبيقها على العالم؟ بمعنى العودة إلى فرض الرؤية التطهرية الأمريكية على العالم خصوصا الشرق الأوسط، وإعادة فرض تلك الأجندة، حتى ولو تم تدمير المجتمعات وتفكيك الدول؟ أم أنها مجرد وسيلة لاستدرار التعاطف من قطاعات دينية معينة؛ تتم إعادة تذكيرها بالقيم الأمريكية التي أهدرها عصر دونالد ترامب؟
لقد اعتبر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل رحمة الله عليه اختيار الشعب الأمريكي لرئيس من أصول أفريقية لأول مرة، وهو السيد باراك حسين أوباما بأنه نوع من التطهر من آثام وذنوب جورج بوش الابن، وأن الشعب الأمريكي بعاطفته الدينية الأصيلة أراد أن يتطهر من كل خطايا عهد بوش الابن، فخرج عن كل تقاليده التي تقصر اختيار الرؤساء من فئة البيض الأنجلوساكسون البروتستانت؛ إلى اختيار رئيس أسود وإن كانت أمه من البيض الأنجلوساكسون البروتستانت. وأظن أن الأستاذ هيكل كان يقصد أن الأمريكان اختاروا "أوباما" كنوع من "الكفارة" عن ذنوب عهد بوش.
والآن بعد عصر ترامب بكل ما صاحبه من خروج عن القيم الأمريكية تمت العودة إلى عقلية "الكفارة" مرة ثانية، فتم اختيار رئيس من الأقلية الكاثوليكية، ونائبته خليط من الهندوسية الهندية، والبروتستانتية الأفريقية الكاريبية، وهي العودة الثانية لنموذج أوباما الذي يستدعي حضور أوباما نفسه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة