قراءة متأنية في مذكرات باراك أوباما التي نُشرت مؤخرا، وكشف فيها عن إخفاقاته، وندمه على تلك الأخطاء.
في مذكراته التي نشرت "مصادفة" بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة، يقول الرئيس السابق للولايات المتحدة باراك أوباما إن المأساة السورية هي من أبرز إخفاقاته، ولا تزال تؤلمه حتى الآن. وهذا معناه ببساطة وواقعية أنه نادم على إطلاق يد الخمينيين هناك مقابل اتفاق يزعم ضبطهم لبرنامج إيران النووي.
لا قيمة لندم أوباما ولا لمبرراته اليوم، ولكن توقيت الإعلان عنه هو ما يستحق التأمل. فهو يتزامن مع استعداد الرئيس المنتخب جو بايدن لدخول البيت الأبيض، والبدء بتطبيق الرؤية الديمقراطية لأزمات العالم والشرق الأوسط. وهو ما يفترض أن يكون إلى حد ما استكمالاً لما بدأه أوباما ولم ينتهِ لسبب أو لآخر.
أن يتماهى بايدن مع أوباما بشكل كامل لا يبدو مطلوبا من قبل الحزب الديمقراطي. فثمة أخطاء ارتكبها السلف على مستوى السياستين الخارجية والداخلية لا بد من تصحيحها، وإلا سيسترد الجمهوريون الحكم بعد أربع سنوات، وغالبا عبر دونالد ترامب الذي صوت له نحو خمسة وسبعين مليوناً في 2020.
من أبرز الأخطاء الخارجية لأوباما ويجب على بايدن تصحيحها، التفريق بين أنشطة إيران في المنطقة. فلا فرق في الخطر بين برنامجي طهران النووي والصاروخي، كما أن ضبط البرنامجين لا يعني بأي شكل من الأشكال تجاهل الاعتداءات المباشرة للخمينيين على دول الجوار عبر مليشياتهم المسلحة هناك.
الخطر الإيراني على أمن الشرق الأوسط هو واحد، ولكن له أوجه عدة، فلا فرق بين القنبلة النووية وصاروخ الكاتيوشا والبندقية التي تصنع في إيران، ولا فرق بين علي خامنئي وأصغر مسلح في مليشيات طهران بالمنطقة. كل سلاح يصنعه الخمينيون هو تهديد للسلم، وكل من يقاتل تحت رايتهم هو إرهابي.
هي ثوابت يجب أن ينطلق منها القاطنون الجدد في البيت الأبيض لحلحلة أزمات المنطقة، خاصة في سوريا واليمن والعراق ولبنان. ليس لأي سبب سوى أن الإيرانيين هم من يهيمنون على قرار هذه الدول الأربع، وهم من يعطلون جميع الحلول الممكنة لأزماتها السياسية والاقتصادية وحتى الإنسانية.
يعتقد الخمينيون أن عهد الخصومة مع واشنطن سينتهي عندما يتسلم بايدن مفاتيح البيت الأبيض. هم ينتظرون إدارة أمريكية ترفع عنهم العقوبات، وتغدق عليهم العطايا، وتقدم لهم الاعتذار عما طالهم بسبب العقوبات التي فرضها ترامب بعد انسحابه من الاتفاق النووي في 2018، ولكن هل الأمر كذلك حقاً؟
صحيح أن بايدن قال إنه يريد العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الست الكبرى، ولم يتحدث عن شروط لهذه العودة إلا في التزام طهران ببنود هذا الاتفاق، ولكن ذلك يعد واحدا من الشعارات الانتخابية التي تطلق بصيغتها الفضفاضة، وعند التنفيذ تتبدل الصيغ وتظهر محددات وتجليات الوعود على حقيقتها.
ما يسلط الضوء على الجوانب المظلمة في نوايا الإدارة الأمريكية المقبلة إزاء ملف إيران، هو اشتراط بايدن التزام طهران الصارم ببنود الاتفاق النووي كسبيل لانضمام بلاده إليه مجدداً، لكن هذا بحد ذاته يمثل تحدياً كبيرا للخمينيين بعد ما أنجزوه في العامين الماضيين بمجالات تخصيب وتخزين اليورانيوم.
في تقريرها ربع السنوي، ذكرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قامت بتخزين اثني عشر ضعفا من اليورانيوم المخصب المسموح به بموجب الاتفاق مع الدول الكبرى، أو ما يسمى خطة العمل الشاملة المشتركة. كما بدأت تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء أعلى من نسبة 3.67% المسموح بها في الاتفاق.
التخلي عن "منجزات" الصناعة النووية في هذه المرحلة يبدو صعباً جدا بالنسبة لإيران. وستزداد صعوبته إن رفض بايدن تعويض طهران عن خسائر اقتصادها بسبب العقوبات الأمريكية التي فرضها ترامب، أو رفض رفع هذه العقوبات قبل تراجع الخمينيين عن كل ما حققوه من تخصيب وتخزين لليورانيوم.
ولا نذيع سراً بالقول إن العقوبات التي فرضها ترامب على إيران مغرية وواسعة النطاق، وتتيح للرئيس المنتخب خيارات كثيرة في التحايل على وعده بالعودة إلى الاتفاق النووي، خاصة إذا ما كان للحلفاء الأوروبيين والإسرائيليين رغبة بذلك، أي رغبة بالضغط على طهران من أجل تقويم سلوكها في المنطقة.
بالنسبة للإسرائيليين فهم أصحاب مصلحة معلنة وواضحة جداً في عدم مصالحة الولايات المتحدة وإيران حتى يعود الخمينيون إلى حدودهم. ولكن إن قررت إدارة بايدن العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران دون شروط، فإن ذلك لن يشكل رادعاً لطائرات وصواريخ تل أبيب التي تستهدف الخمينيين في جوارها.
على الضفة الأوروبية انضمت فرنسا مؤخراً لموقف الدول الداعية إلى توسيع التفاوض مع إيران، ليشمل أنشطتها التخريبية والعدائية في المنطقة. وفرنسا هي واحدة من الدول الموقعة على الاتفاق النووي مع طهران في 2015، وأكثر دول القارة العجوز حرصا على بقاء الاتفاق وحماية مصالحها الاقتصادية فيه.
قد ينطوي الطرح الفرنسي الجديد على بعض الخصومة السياسية مع إيران، بسبب عرقلتها لمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون في حل الأزمة اللبنانية، ولكن ذلك لا ينفي أبداً منطقية الطرح وأهميته، خاصة أنه يلتقي مع رؤية حلفاء باريس وواشنطن في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل والسعودية والإمارات.
لا ينوي بايدن التخلي عن إسرائيل وأمنها في المنطقة، وهو مهتم بمساعي السلام العربي مع تل أبيب. ولأنه كذلك لا يمكنه التصالح مع إيران دون مقابل، أو دون مراعاة ما قد تجره عدائية الخمينيين على مصالح بلاده وحلفائها في المنطقة. على الأقل كي لا يشعر بالندم يوما كما حدث مع عرابه أوباما.
ما نشر من مذكرات الرئيس الديمقراطي السابق في هذا التوقيت تحديدا، يقدم وصايا قيمة جداً للسلف بايدن، وفي مقدمتها تجنب الخطأ الذي وقع به أوباما في تفضيله إيران على بقية دول المنطقة، ثم تصديقه الأعمى لأكذوبة أن السلام في الشرق الأوسط سيحل بمجرد منعه الخمينيين من امتلاك القنبلة النووية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة