البيت الأبيض ربما يكون قد نجح في مراهنته على تنفيذ عقوبات على إيران دون حدوث ارتفاع في سعر النفط.
أشرنا من قبل في أكثر من مقال إلى ضغط الإدارة الأمريكية منذ فترة في سبيل تخفيض أسعار النفط في السوق العالمية، خوفا من أن تؤدي أي ارتفاعات كبيرة في الأسعار إلى التأثير سلبا على حظوظ الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي ستجري يوم 6 نوفمبر المقبل، فالارتفاع الكبير في أسعار المنتجات النفطية في بلد يعتمد فلسفة السيارة الخاصة كوسيلة أساسية للانتقال ربما تؤدي إلى تعبير الناخبين عن غضبهم من هذا الارتفاع بتأثيره السلبي على ميزانيتهم، في شكل التصويت للحزب الديمقراطي، ومما يعقد بالطبع من رغبة الإدارة في تخفيض أسعار النفط أن فرض أمريكا حظرا شاملا على صادرات النفط الإيرانية يدخل حيز النفاذ بالكامل في الخامس من نوفمبر في تزامن غريب مع موعد انتخابات التجديد النصفي، وبدأت بالفعل الولايات المتحدة في ممارسة الضغوط على مشتري النفط الإيراني منذ عدة أشهر مما قلص صادرات النفط الإيراني بشكل ملحوظ، ومع وضع هدف صفر صادرات إيرانية أي غياب نحو 2.5 مليون برميل يوميا عن السوق العالمية بعد 4 نوفمبر، وكان الرهان الواضح من ثم للبيت الأبيض هو تنفيذ العقوبات على إيران بكل شدة، مع عدم ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية في الوقت ذاته، وكانت الوسائل التي لجأت إليها الإدارة في سبيل تنفيذ هذا الهدف ثلاث وسائل مترابطة.
البيت الأبيض ربما يكون قد نجح في مراهنته على تنفيذ عقوبات على إيران دون حدوث ارتفاع في سعر النفط، ومن المؤكد أن سعر النفط ليس هو العامل الحاسم في انتخابات التجديد النصفي
الوسيلة الأولى كانت باللجوء للضغط على منظمة الأوبك وحلفائها في اتفاق خفض الإنتاج حتى يرفعوا من مستوى إنتاجهم بما يكفي لتغطية النقص الذي سيحدث في الصادرات الإيرانية، بل ربما أكثر إذا أمكن ذلك للعمل على خفض الأسعار قبيل إجراء انتخابات الكونجرس، وقد أتى رد فعل الأوبك وحلفائها عاقلا ومتوازنا، حيث تم اتخاذ قرار أثناء اجتماع لجنة مراقبة الإنتاج خلال شهر سبتمبر الماضي بالعودة لتطبيق الاتفاق بحذافيره، أي تحقيق خفض في الإنتاج يلتزم بنص القرار الأصلي، وذلك بعد أن كان مستوى الخفض قد تجاوز خلال الشهور الأخيرة نحو 122% من مستوى الخفض المطلوب، وتقدر بعض المصادر أن إنتاج الأوبك وحلفائها خلال شهر أكتوبر كان الأقرب للاتفاق حيث بلغت نسبة الالتزام بالخفض نحو 107%، ووفقا لبعض التقديرات غير الرسمية فقد ارتفع الإنتاج الروسي إلى نحو 11.41 مليون برميل يوميا في شهر أكتوبر، وهو مستوى لم يبلغه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، كما أوضح مسح لوكالة رويترز للأنباء أن منظمة الأوبك ضخت 33.31 مليون برميل يوميا في شهر أكتوبر، بزيادة 390 ألف برميل عن شهر سبتمبر، وهو ما يعد أعلى مستوى لإنتاج المنظمة منذ ديسمبر 2016، أي قبل دخول اتفاق خفض الإنتاج حيز النفاذ في يناير 2017، وكانت أهم دول المنظمة التي زادت من مستوى إنتاجها خلال شهر أكتوبر كلا من الإمارات وليبيا والعراق ونيجيريا وأنجولا، علاوة على استمرار المملكة العربية السعودية في إنتاج مستوى يقترب من مستوى إنتاجها المرتفع في شهر سبتمبر.
الوسيلة الثانية تمثلت في الاتجاه إلى استخدام المخزون الاستراتيجي من النفط الخام، وهو المخزون الذي يتم بناؤه بأموال فيدرالية ويخضع التصرف فيه بالإضافة والسحب إلى الإدارة والكونجرس، ووفقا لقرار قديم للكونجرس من المقرر بيع 250 مليون برميل من هذا المخزون على مدى عشر سنوات بهدف دعم الموازنة الفيدرالية، لأن مستوى هذا المخزون أصبح مبالغا فيه بعد زيادة الإنتاج المحلي نتيجة طفرة إنتاج النفط الصخري، وفي هذا الإطار جاء قرار الإدارة ببيع نحو 11 مليون برميل من هذا المخزون بالبيع والتسليم خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، في محاولة أيضا لخفض أسعار النفط قبل الانتخابات، والواقع أنه لم يتم التصرف بالبيع بشكل صاف خلال العام الجاري سوى في شهرين فقط هما شهر مايو الماضي الذي ارتفعت فيه الأسعار بوضوح مقارنة بالشهور السابقة عليه، حيث تم بيع نحو أربعة ملايين برميل من المخزون الاستراتيجي، وظل هذا المخزون ثابتا منذ نهاية مايو وحتى نهاية شهر سبتمبر الماضي، حيث تم بيع ما يزيد بقليل عن خمسة ملايين برميل من بداية شهر أكتوبر وحتى يوم الجمعة الماضي، ومن غير المستبعد أن يكون قد تم بيع كمية إضافية خلال الأسبوع الجاري، وتكون جزئيا سببا فيما حدث من انخفاض في الأسعار.
وكانت النتيجة العملية لهاتين الوسيلتين هو انخفاض واضح في سعر برميل النفط من نوع برنت حتى بلغ 75.47 دولار يوم الأربعاء الماضي، وكان سعر البرميل قد شهد ارتفاعا متواصلا منذ الأسبوع الثاني في شهر سبتمبر الماضي ليبلغ ذروته يوم 3 أكتوبر بتسجيل 86.09 دولار، وهو أعلى سعر لنفط برنت منذ يوم 29 أكتوبر 2014، لكن من الواضح أن هذا الارتفاع قد أتى تحت تأثير مضاربات بالغت في كمية الانخفاض في الصادرات الإيرانية والتشكيك في قدرة بقية المنتجين، سواء داخل الأوبك أو خارجها على تغطية هذا الانخفاض، وبذلك يكون سعر برميل برنت قد انخفض بأكثر من عشرة دولارات عن أعلى سعر بلغه خلال الشهر المنقضي.
الوسيلة الثالثة كانت هي عدم وضوح موقف الإدارة بشأن منح بعض مستوردي النفط الإيراني موافقة على إعفائهم من الحظر التام واستمرار شرائهم كميات محددة من هذا النفط، وكان هذا الاتجاه واضحا منذ البداية في تصريحات وزير الخزانة مونتشين، الذي أكد أن الإدارة ستمنح بعض الدول هذا الإعفاء، إلا أن المواقف بعد ذلك تشددت تماما، وبدأ التأكيد على هدف صفر صادرات إيرانية في الشيوع على لسان عدد من أركان الإدارة، ثم كانت المفاجأة التامة في إعلان جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي والأكثر تشددا ضد إيران يوم الأربعاء الماضي "أن واشنطن تريد ممارسة أقصى حد من الضغوط على إيران.. لكنها لا تريد الإضرار بالدول الصديقة والحليفة التي تعتمد على النفط". وأضاف "إن إدارة الرئيس ترامب تدرك أن عددا من الدول، بعضها قريب جغرافيا من إيران ربما لا يتمكن.. من التوقف بشكل كامل عن شراء النفط على الفور". وهو ربما ما يشير إلى النية في منح إعفاءات ولو جزئية لتركيا والهند وكوريا الجنوبية واليابان والصين وبعض دول أوروبا، ونرى أن هذا الموقف وعلى لسان "بولتون" بالتحديد ربما كان محاولة لإضفاء المزيد من التهدئة على أسواق النفط، ومن ثم تحقيق المزيد من خفض الأسعار قبل انتخابات الكونجرس بأيام معدودة، وربما تكتفي واشنطن بحجب كمية تصل إلى ما لا يزيد على مليون ونصف المليون برميل من صادرات النفط الإيراني كحد أقصى، حيث تبلغ نسبتها نحو 60% من أعلى مستوى بلغته الصادرات الإيرانية هذا العام، إذ ربما تعتبر أن مثل هذا الانخفاض الكبير كفيل بإجبار إيران على العودة مرة أخرى لمائدة التفاوض.
الخلاصة إذا تشير إلى أن البيت الأبيض ربما يكون قد نجح في مراهنته على تنفيذ عقوبات إيران دون حدوث ارتفاع في سعر النفط، ومن المؤكد أن سعر النفط ليس هو العامل الحاسم في انتخابات التجديد النصفي، ولكن الحزب الجمهوري الذي يراهن في هذه الانتخابات على قوة الأداء الاقتصادي خلال الفترة الماضية من حكم ترامب لا يريد أن يعكر صفو ذلك بارتفاع أسعار الوقود، التي تشكل بندا رئيسيا في ميزانية الغالبية العظمى من المصوتين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة