موسم الزيتون في غزة.. تاريخ وعطاء وانتماء
موسم حصاد الزيتون في فلسطين يشكل مناسبة وطنية، تحمل أكثر من مجرد الربح، فهي حارسة الذكريات ورمز الصمود والتاريخ والتراث الفلسطيني
على بعد أمتارِ من السلك الشرقي لمحافظة خانيونس، جنوب قطاع غزة، كرم زيتون لأشجار معمرة منذ 70 عاما. داخل تلك الكرم ينتظر موسم جني الزيتون، عمالٌ من فئات المجتمع المختلفة تقطعت بهم سبل العيش منذ سنوات.
أرباب أسر وخريجون من كليات وتخصصات مختلفة وكبار سن وأطفال وصبايا ينتظرون موسم الحصاد على أمل تحسين أحوالهم وأوضاعهم المالية قليلا.
"العين الإخبارية"، تجولت في المنطقة الشرقية لمحافظة خانيونس، ودخلت كروم الزيتون وقت الحصاد، لتروي قصة تاريخ من العطاء والانتماء، والخير الذي تغدقه شجرة الزيتون على أهلها..
الحصاد.. ثمار وأفراح
المزارع صلاح أبوصلاح من منطقة عبسان الكبيرة، جنوب قطاع غزة، يعتبر موسم جني الزيتون، موسم الخير والبركة، والفرح والأهازيج الجميلة، ومن عوامل الصمود للشعب الفلسطيني، فشجرة الزيتون تعني الثبات والتمسك بالأرض وحماية الذاكرة من الشطب.
يقول أبوصلاح: "منذ طفولتي وأنا أجني ثمار الزيتون مع عائلتي، حتى كبرت وصار عمري 50 عاما، وها هم أولادي معي اليوم، يجنون الثمار، ويقلدون أجدادنا في مراسم الحصاد".
يتذكر أبوصلاح الأغاني التراثية التي كانت ترددها والدته وخالاته وعماته ونسوة البلدة قبل عشرات السنين، كما يلفت إلى ان طريقة الجني هي نفسها مع بعض التسهيلات التي حدثت كالسلالم الطويلة والامتناع عن ضرب الزيتون بالعصي لإسقاط الثمار، وغيرها من العادات والتقاليد التي ورثها من الأجداد.
يضيف: "أجدادنا علمونا عناق الأشجار والتغني بخيرها، وجمع العائلة يوم الحصاد بكل أفرادها وتقسيم العمل إلى مهمات محددة، فكل مجموعة صغيرة تمارس مهامها بكل سرور، حتى الظهيرة، فتحضر النساء طعام الغداء للجميع، فنلتف حوله ونتناول طعامنا، وسط جو من الفرح والبهجة، جمعتنا عليه شجرة الزيتون في موسم الخير".
وطن وصمود
محمد أبوإسماعيل، حاصل على شهادة الهندسة المعمارية، عاطل عن العمل منذ تخرجه، يلتقط أي فرصة للشغل لمواصلة حياته بشكل طبيعي، وبالنسبة له فإن موسم جني الزيتون أفضل فرص العمل.
يقول: "موسم الزيتون في فلسطين يشكل مناسبة وطنية، إذ توجد علاقة وثيقة بين شجرة الزيتون وصمود الفلسطيني فوق تراب أرضه، وحاول الاحتلال كثيراً فصلنا عن شجرة الزيتون، بقطعها وتجريف أراضيها، وأحياناً برشها بمبيدات سامة، إلا أننا كنا نعيد زراعتها في تحد واضح لجميع إجراءات الاحتلال".
يرى أبو إسماعيل موسم حصاد الزيتون بمثابة طرد لهواجس الغربة والهجرة، فالفرج سيأتي يوما كما أن مشاركته الأجيال المختلفة في موسم الحصاد تعطيه القوة للاستمرار ومواصلة الحياة لتحقيق الأحلام، "فالسلام النفسي الذي تعطيه شجرة الزيتون يكفي للبقاء في الوطن"، وفق ما يقول.
عرس بعد غرس
محمد أبوالخير شاب لم تسعفه ظروفه لاستكمال تعليمه، ولكنه تعلم من الحياة ما يكفيه ليكون المنشد الأبرز في منطقة الشرقية، جنوب قطاع غزة. ومع تسلقه السلالم العالية، ليقف على رأس شجرة الزيتون، تصدح منه المواويل والأناشيد الجميلة، ليطرب من يجنون الثمار، وينسون الوقت ويمررونه بكل هدوء وسهولة.
يعتبر أبو الخير موسم قطف الزيتون عرسه الشخصي في كل سنة. يقول: "صحيح أنني أتقاضى على عملي هذا أجر ولكنني أترك كل أعمالي الثانية، وأتفرغ لجني الزيتون، والغناء والإنشاد، لشحذ الهمم، وكسر الملل، وجميع الأغاني من التراث الوطني، تعلمتها بحرفية وتدربت عليها على يد كبار السن، من مواويل وعلاقة الإنسان بأرضه ومعاني الشجرة الكثيرة، وحين أرى الفرح في عيون جناة الزيتون أشعر أنني صانع الفرح في أرواح متعبة.. أحب هذا الموسم حبي لوطني الكبير فلسطين".
حارس الذاكرة
تجلس فاطمة أبوالخير القرفصاء على الأرض أمام جبلٍ صغير من ثمار الزيتون المخلوطة بأوراق الشجرة والقش، لفرزها بكل انتباه. تقول: "بعد وفاة زوجي لم يصبح لي مصدر رزق سوى موسم جني الزيتون، وبعض الأعمال القليلة خلال السنة، تساعدني لإعالة أسرتي، فيأتيني أصحاب كروم الزيتون لكي أعمل لديهم مقابل أجر".
توضح فاطمة أنه على الرغم من الأجر الذي تأخذه، فإن جني الزيتون ليس عملا فحسب، ولكنه موسم يحيي الكثير تقاليد الماضي، ويستحضر الحكايات الجميلة وأزمنة الجدات والأجداد.
تستحضر فاطمة كيف كان الأجداد يحملون الزيتون على العربات المجرورة بالبغال من قطاع غزة إلى يافا لكي يعصرونه هناك، فهي كانت رحلات يتنافس عليها أفراد العائلة، ويتسابقون من أجلها، فكل من يزيد إنتاجه عن الآخر يكون الدور له لكي يصاحب الموسم إلى شمال فلسطين.
تضيف: "كلها صور غابت عن أذهان الناس اليوم ولكنها تعود لتعيش فينا في مواسم جني الزيتون، وغيرها من عادات جرت على شعبنا، كخبز الصباح، وشاي الظهيرة، وحلوى المساء، وتحلق الرجال والنساء بعد الانتهاء من العمل قريب المغيب، للدبكة الشعبية على أغاني الشبابة (آلة موسيقية من القصب) والأهازيج الجميلة، ومع نشر الزيتون في البيادر وفي أماكن مخصصة قبل وزنها لكي يعرف كل مزارع ما له منها، تكون البلدة قد جهزت نفسها لاستقبال الزيت من المعاصر البعيدة، وحفلة الاستقبال لا تقل عن حفلة الانتهاء من جني الزيتون، هكذا كانت الحياة قبل الاحتلال، ونحاول اليوم أن نحضر بعضها رغم قسوة الظروف التي نعيشها".
موسم بين زمانين
في أحدث معصرة للزيتون في قطاع غزة، يقف أصحاب المحصول لتسجيل حضورهم وفق نظام أعدته إدارة المعصرة، وبعد وضع الزيتون في أقفاص كبيرة ووزنها، تبدأ دورة العصر دون أن تمسه الأيادي.
يقول سليمان عطار، أحد أصحاب المحاصيل: "قبل 60 عاما، كنا نطحن الزيتون على حجرين، وكانت الهمة عالية، والجهد كبير، ونقضي أياماً أمام الحجرين، ولكن اليوم ساعات قليلة وننتهي من عصّر الزيتون، وتعبئة الزيت، والرجوع إلى بيوتنا وأسواقنا لكي نبيعه أو نخزنه".
لا يخفي عطار أن زمن العصر في الماضي كان أجمل، على الرغم من التسهيلات الحديثة، إذ كانت له طقوسه وتقاليده التي يحبها الجميع، وكان لأحجار الزيت أغان وأناشيد تراثية جميلة باقية في الذاكرة أبد الدهر.
يتابع قائلا: "الحب الذي كان يجمعنا أثناء طحن الزيتون كان يكفي لتصفية قلوبنا من الشوائب، ونعزز علاقاتنا كشعب واحد، ليت الزمان يعود، لنعود كما كنا حول أشجار الزيتون، وجني ثماره ونشرها وتحميلها على البغال والحمير والسفر بها للشمال والرجوع بالزيت وكلنا فرح".
خير وزيت وسمعة حسنة
أنيس أبوحمد، المهندس المشرف على المعصرة الحديثة في منطقة عبسان الكبيرة، جنوب قطاع غزة، يقول إن كمية الزيتون التي تدخل المعصرة بشكل يومي أثناء أيام الحصاد متفاوتة، ولكن معدلها المتوسط لا يقل عن 65 طنا، ومعدل إنتاج الزيت تقريباً يقترب من 11 ألف لتر.
وحسب أبوأحمد، فإن أفضل أنواع الزيتون في قطاع غزة يعتبر (الصري) ومن ثم (الشملالي) وتأتي بعدها أنواع أخرى مثلk18 وk14 وغيرها التي تم إدخالها من مناطق مختلفة، وتخلط هذه الأنواع مع بعضها البعض وفق معايير محددة، وتخضع لرغبة مالك الزيتون، أما من حيث الجودة، فيعتبر زيتون فلسطين من أفضل أنواع الزيتون في العالم، وخصائصه الغذائية عالية، ويصدر منه كميات لا بأس بها، وهو مطلوب زيتاً في السوق الأوروبية لجودته، ويعتبر هذا الموسم من المواسم الوفيرة بالزيتون والزيت، وما يؤخذ للعصر يشكل نسبة 60% بينما ما يخزن حبّاً يشكل 40% وهذه النسب تختلف من سنة لسنة.
مخلفات الزيتون مصدر إبداع
في السور الخلفي للمعصرة الحديثة، قرر 3 شبان من خريجي كلية الهندسة الزراعية، تامر أبومطلق وأسامة قديح وخالد أبومطلق، تشكيل فريق لإعادة تصنيع مخلفات الزيتون، فأحضروا مطحنة حديثة لطحن النوى، وتجميعها على شكل تلال صغيرة، ومن ثم وضعها في قوالب بلاستيكية، وخرقها من المنتصف بشكل دائري، لتمرير النار من خلالها، وهذه العملية كلها لوضع القوالب في الدفيئات الزراعية وقت البرد الشديد، وحرقها لتدفئة المزروعات ومعالجة الأضرار الناجمة عن البرد، ولا تستبعد البيوت العادية من استخدام هذا النوع بالتدفئة والطهي وغالباً ما يستخدمها الفقراء لأن أسعارها بمتناول اليد، والشبان الثلاثة يدرسون توسيع نشاطهم لإيجاد طاقة بديلة أقل سعراً وأفضل جودة من الوقود غالية الثمن.
aXA6IDE4LjExOS4xOTIuMiA=
جزيرة ام اند امز