الأولمبياد والسياسة.. هكذا تعمل «دبلوماسية الرياضة»
رغم تأكيد مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة على مبدأ الفصل بين الرياضة والسياسة فإنه هو نفسه من وضع هدفا سياسيا لها.
سقط بيير دو كوبرتان في ثغرة رسمها خيط رفيع يفصل بين العالمين، في تناقض أكد أن الأولمبياد -كغيرها من الفعاليات الرياضية- ليست سوى أحد المظاهر السياسية للبلد المضيف.
انعكاس تجسده لائحة الحاضرين والغائبين.. من تلقى دعوة المشاركة ومن مُنع منها، المقاطعون الذين تلقوا أوامر من حكوماتهم بعدم المشاركة لأسباب سياسية، والمتدفقون لذات الأسباب.
كل ذلك يجعل السياسة تنبعث من جميع جنبات الحدث، من الملاعب والمدرجات والشعارات واللافتات، ومن حضور الرؤساء والقادة والملوك، ومن غيابهم أيضا، لأنه حين يتعلق الأمر بالرياضة فإن للحضور رسالة سياسية، وللغياب أيضا.
«هدنة أولمبية»
فرنسا التي تستعد بعد ساعات قليلة لافتتاح الألعاب الأولمبية لم تشذ عن قاعدة توظيف الحدث الرياضي لخدمة أهداف سياسية، محلية أو خارجية.
فقبل وقت قصير من الفعاليات، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «هدنة سياسية» أشار من خلالها إلى أنه لن يعيّن حكومة جديدة قبل منتصف الشهر المقبل.
خطوة جاءت ضمن آمال يعلقها ماكرون على الأولمبياد، لتعزيز إرثه السياسي ومحاولة التخفيف من فشل رهانه على إجراء انتخابات تشريعية مبكرة.
ولم يكتف الرئيس الفرنسي بذلك، بل أراد أن يكون الحدث فرصة لـ«هدنة أولمبية» تسكت أصوات البنادق حول العالم.
وقال عن ذلك في تصريحات إعلامية سابقة: "نريد العمل من أجل التوصل إلى هدنة أولمبية، وأعتقد أن هذه فرصة سأحاول فيها إشراك العديد من شركائنا".
وأشار ماكرون إلى رغبته في تحقيق "هدنة أولمبية" تقف بموجبها جميع الأعمال القتالية عبر العالم، وذلك خلال فترة الألعاب المقررة من اليوم الجمعة إلى 4 سبتمبر/أيلول المقبل.
دعوة تتزامن مع الحرب المستعرة في غزة بين إسرائيل وحركة حماس وفي شرقي أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، وغيرها من الأزمات التي تعصف بعدد من بلدان العالم.
«دبلوماسية الرياضة»
التاريخ يضج بالشواهد على أن دبلوماسية الرياضة ليست مصطلحا معاصرا وإنما تمتد جذوره إلى عقود طويلة خلت.
فبعد انطلاق أول الأولمبياد بأثينا في عام 1896، حالت الحرب العالمية الأولى دون تنظيم الفعاليات في 1916، لكنها حين استأنفت بعد ذلك بـ4 سنوات، كان الشرط الوحيد لإقامتها هو منع البلدان المهزومة في الحرب من المشاركة.
أرادت الدول المنتصرة بذلك أن تحرم المنهزمة من إمكانية استعادة هيبتها التي خسرتها عسكريا عن طريق الرياضة، وكان ذلك أوضح مؤشر على تداخل الرياضة والسياسة.
ثم جاءت ألعاب برلين في 1936 لتقدم دليلا أكبر على الخلط بين الرياضي والجيوسياسي، إذ انتهز أدولف هتلر الفرصة وأراد أن يجعل من الحدث رمزا لنصر النازية.
لكن رياضيا أمريكيا من أصول أفريقية يدعى جيسي أوينز حرمه من نشوة الانتصار بحصوله على 4 ميداليات ذهبية، وكان ذلك أسوأ ما يمكن أن يحدث على مرأى من القائد العسكري.
ففوز أوينز نسف نظرية هتلر التي تزعم تفوق العرق الآري، كما أن الصداقة التي ربطت بين الرياضي بنظيره الألماني لوتز لونغ، أكدت أن أشخاصا بألوان مختلفة يمكن أن يكونوا أصدقاء، وكان ذلك كابوسا بالنسبة لهتلر.
لاحقا، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وعلقت الأولمبياد مرة أخرى، وحين استضافتها العاصمة الفنلندية هلنسكي العام 1952، شارك الاتحاد السوفياتي لأول مرة مع أنه كان ينتقدها، لكن يبدو أنه وجد فيها وسيلة لتحقيق التفوق بالملاعب الرياضية، وحصد ثمار دبلوماسية.
أما الحادثة التي لا تزال راسخة في أذهان المؤرخين، فهي حين أخفقت فرنسا في حصد ميداليات ذهبية، ما شكل صدمة للرئيس حينها شارل ديغول، والذي اعتبر أن ذلك الفشل يمس من هيبة البلاد.
ولذلك، أعاد ديغول تأسيس سياسة رياضية فرنسية، فيما ظل رسم كاريكاتيري شهير بهذه المناسبة يظهر فيه مرتديا حذاءين رياضيين وبذة رياضية وهو يقول: «في هذا البلد، ينبغي أن أقوم بكل شيء بنفسي»، يتوارث عبر الأجيال بفرنسا.
ولم يختلف الأمر كثيرا في العام 1964، حين استضافت طوكيو الألعاب، وقررت اللجنة الأولمبية الدولية استبعاد جنوب أفريقيا بسبب سياسة الفصل العنصري، وذلك بطلب من دول أفريقية كانت حينها استقالت لتوها عن مستعمريها.
وفي المكسيك، ارتفعت في عام 1968 قبضة اليد المرفوعة من قبل الرياضيين تومي سميث وجون كارلوس للاحتجاج على حال السود في الولايات المتحدة.
وفي 1980، كان من المقرر أن تستضيف موسكو الألعاب الأولمبية، ولكن غزوها لأفغانستان دفع بالرئيس الأمريكي وقتها جيمي كارتر لمنع وفد بلاده من المشاركة، في خطوة اقتدت بها عدة دول.
وسمح ذلك للاتحاد السوفياتي بتحقيق انتصارات كثيرة شكلت الوجه الآخر لسياسته الخارجية، وسلاحا من نوع مختلف بوجه المقاطعين.
فمن يقول بعد كل هذا إن الرياضة منفصلة عن السياسة؟
aXA6IDMuMTQxLjEyLjMwIA== جزيرة ام اند امز