في مفاجأة مدوية من العيار الثقيل عادت «الجماعة الأم» إلى الواجهة مجددًا، وكذلك فعل الدكتور يوسف القرضاوي، الرمز الأول للإسلام السياسي اليوم من زاوية حادة وضيقة ستسبب كثيرًا من العواصف على مستوى الأحاديث المتفرقة عن مستقبل الإسلام السياسي وجماعة الإخوان
في مفاجأة مدوية من العيار الثقيل عادت «الجماعة الأم» إلى الواجهة مجددًا، وكذلك فعل الدكتور يوسف القرضاوي، الرمز الأول للإسلام السياسي اليوم من زاوية حادة وضيقة ستسبب كثيرًا من العواصف على مستوى الأحاديث المتفرقة عن مستقبل الإسلام السياسي وجماعة الإخوان، بين دعوات حل التنظيم في أكثر من بلد وتحوله إلى حزب مدني سياسي، وبين تكهنات بدخوله مرحلة العنف الكامن، وإعادة البناء ومحاولة استفزاز الفضاء الإسلامي العام عبر تصريحات مثيرة للجدل، كان آخرها نعي «عمر عبد الرحمن الزعيم الروحي والحركي للجماعة الإسلامية» الذي كان يقضي عقوبة السجن مدى الحياة لتورطه في هجمات نيويورك 1993.
في موقعها الرسمي على شبكة الإنترنت نعت «الجماعة» رمز التطرف المسلح في مصر السبعينات، وأحد أهم منظّري التكفير والخروج على الأنظمة؛ من نظام عبد الناصر وحتى مبارك، وصولاً إلى تكفيره للحكام المسلمين والعرب؛ بدعوى ترك فريضة الجهاد وعدم تحكيم الشريعة، وجاء في نص النعي أن الجماعة «تتقدم بخالص التعازي إلى أسرة وطلاب ومحبي الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن، الأستاذ بجامعة الأزهر، المغفور له بإذن الله، الذي قضى نحبه صابرًا في محبسه بالسجون الأميركية»، ويمكن قراءة حجم التزوير والتلون والتلاعب بالمصطلحات، حيث اختزلت سيرة الدم لرمز الجماعة الإسلامية، ومساره العنيف الذي أودى بالمئات من الأبرياء على رأسهم المفكر فرج فودة، إلى وصفه بالمغفور له والأستاذ بجامعة الأزهر وفقيد العمل الإسلامي؛ لتمزج ذلك بلغة التعاطف الإنساني في الحديث عن عجزه ومرضه وفقدانه للبصر.
القرضاوي بدوره كان أكثر ذكاءً من بيان الجماعة الفجّ والمشرعن للعنف في لحظة استغلال للحظة الموت، لا سيما في السجون الأميركية، ووصف عمر عبد الرحمن بأنه: «لقي ربه صابرًا محتسبًا»، وهي أجواء تذكرنا بما كان يجترحه عبد الله عزام من أوصاف ونعوت مدائحية للمنخرطين في العمل المسلح، والمقاتلين الخارجين على منطق القانون والدولة.
وللإفادة فعمر عبد الرحمن لم يكن داعية في جماعة سلمية أو مرجعية فقهية وأصولية، بل كان زعيمًا لجماعة مسلحة تدعو للجهاد، وإقامة الفريضة الغائبة، والدولة الإسلامية، وإعادة الخلافة، والتي أسست لأول مرة جماعة ومنظومة فكرية متكاملة أشبه بدولة داخل الدولة بعد أن اقتصرت حالات التمرد المسلح على نزوع أفراد متعصبين إلى محاولة الاغتيال أو القيام بعمليات منفردة كما هو الحال الآن في إرهاب الخلايا، الجماعة نشأت في قلب الجامعات المصرية في أوائل السبعينات على شكل جمعيات دينية راديكالية بعد أن غابت المؤسسات الرسمية، واقتصر حضور الإسلام السني على شخصيات لا يمثلون السياق العام للحركة الإسلامية، بل بدوا، أو هكذا تم تصويرهم، أنهم أدوات بيد السلطة كعلماء المملكة والأزهر، أو أنهم مخطئون وضالون في فقه الجهاد كما وسم الشيخ الألباني وقتئذ، وهناك كثير من المصنفات والردود المتبادلة المكتوبة والصوتية بين الفريقين لا يمكن أن تذبل الذاكرة القريبة عنها.
لاحقًا أسهم عمر عبد الرحمن في نمو هذه الجماعة وتطور مفهومها ونظرتها للعمل، وتحول إلى خطاب شمولي ومرجعية جهادية مستقلة، فقرروا وضع اسم لامع «الجماعة الإسلامية» بأل التعريف، وهيكلوا لها نظامًا دقيقًا فيه مجلس شورى يرأسه أمير وهو عادة ما يكون قياديًا ميدانيًا أو مُنظرًا تربويًا، ويحتوي على مجلس شورى ينتهي بأمير أمراء الجماعة الشيخ عمر عبد الرحمن. وفي غضون سنوات وتحديدًا في 1973م فازت الجماعة بثقة الأغلبية الصامتة من جماهير الطلاب في انتخابات الاتحادات الطلابية لينشق فصيل من قيادة الجماعة في عام 1977م وينضم لجماعة الإخوان المسلمين التي بدأت تعاود نشاطها في ذلك الوقت، مما أدى إلى وجود تيار للجماعة الإسلامية يمثله الإخوان، وذلك في بعض كليات جامعتي القاهرة والإسكندرية، وهو جزء من التاريخ التكاملي في الأدوار المتباينة على مستوى العمل بين الإسلام السياسي والإسلام الحركي المسلح، والأهداف المتشابهة والمتماثلة على المدى البعيد من هزيمة منطق الدولة، ومحاولة إعادة مفهوم الدولة الدينية الفاشية في منطقه الشمولي، الذي وإن لم ينجح في هدفه الأخير في الاستيلاء على السلطة، لكنه نجح في هدفه القريب والمتوسط في الاستيلاء على مفاصل المجتمع ومؤسسات الدولة وأهمها التعليم؛ لتصبح تلك التجربة (الإخوان - الجماعة الإسلامية) محفزة على التكرار في مجتمعات مختلفة في السياق على الأقل في الموقف من الشريعة والإسلام المجتمعي كدول الخليج وعلى رأسها المملكة، وهو ما يعني أن جزءًا من أزمة العنف لدينا لم يكن كما يشاع بسبب تغول التيارات الدينية التقليدية مما توسم بجهل وتعميم شديدين بـ«السلفية - الوهابية».
عمر عبد الرحمن لم يكن أكثر من رمز علمي ومرجعية راديكالية تم استبدالها بعد الانفصال عن جسد الإسلام التقليدي، وكانت فكرة تعيينه آتية من عرض قدمه كرم زهدي على مجلس شورى الجماعة الذي يرأسه الدكتور ناجح إبراهيم من أجل أن يتولى إمارة الجماعة أحد العلماء العاملين الذين لهم مواقفهم الصلبة ضد «الطاغوت» الذي يجسده النظام السياسي، والسبب لكل من عاش تلك الأجواء وتجربة الجماعة هو البحث عن شرعية دينية للقتال المسلح عبر شخصيات كارزماتية، وذات بلاغة خطابية وقدرة على التحشيد، وهو ما قام به عمر عبد الرحمن على نحو فعال، متنقلاً بين طول القطر المصري وعرضه للدعوة إلى الجهاد والخروج على الحاكم، ثم بتورطه في حادثة اغتيال السادات، ومهاجمة أمن أسيوط ومراكز الشرطة التي أدت إلى قتل كثير من رجال الأمن والأبرياء، ومع ذلك تم الإفراج عن معظم قادة التنظيم في 1984 الذي أعاد إنتاج نفسه برئاسة محمد شوقي الإسلامبولي، وحاولت اغتيال مجموعة من الوزراء، أبرزهم رفعت المحجوب، والدكتور فرج فودة، ولتختزل الجماعة هدفها في منشور لها كان منتشرًا لدى الإسلاميين في تلك الحقبة «إقامة خلافة على منهج النبوة»، وهي بالمناسبة هدف «داعش» نفسه، ولكن بتنظيم فوضوي في ظل غياب المرجعيات، فهل يقال عن مسيرة شخصية بغض النظر عن الشخص بأنه «فقيد العمل الإسلامي»... أعتقد أنها إحدى الصدمات الكبرى للجماعة الأم في أكثر أوقاتها حرجًا.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة