جهود إماراتية لإنقاذ التراث الإنساني.. اكتمال منارة الجامع النوري في الموصل
رسالة تسامح وأمل تبعثها الإمارات إلى العالم، فيما تواصل جهودها لحماية التراث الإنساني وصونه من الاندثار.
لم يكن يوم 21 يونيو/حزيران 2017 مجرد تاريخ عابر، فقد شهد العالم آنذاك لحظة مؤلمة عندما أقدم تنظيم "داعش" على تدمير جامع النوري ومنارته الحدباء في مدينة الموصل العراقية، محولًا معلمًا تاريخيًا بارزًا إلى أنقاض.
المسجد الذي أعلن منه زعيم التنظيم المقتول، أبوبكر البغدادي، في عام 2014، إقامة ما سماها "الخلافة"، أصبح رمزًا للدمار الذي خلفه الإرهاب، إلا أن جهود إعادة الإعمار أعادت الأمل إلى المدينة. وتكفلت دولة الإمارات بإعادة ترميم الجامع ومنارته ضمن مشروع "إحياء روح الموصل"، الذي يشمل أيضًا ترميم كنيستي الساعة والطاهرة، في خطوة تعكس التزامها بالحفاظ على التراث الإنساني والتاريخي للمدينة الواقعة شمالي العراق.
التزام مستمر بإعادة الإعمار
تتواصل الجهود الإماراتية حتى تم إحياء الجامع، وشمل ترميم مئذنته الشهيرة ودمجها في المشهد العمراني للموصل مجدداً، في خطوة تجسد التزام الإمارات بالحفاظ على التراث الإنساني. ويأتي ذلك ضمن رؤية تنطلق من إدراك عميق لأهمية هذا الصرح، الذي بقي شامخاً في المدينة على مدى قرون، باعتباره شاهداً على تاريخها وثرائها الثقافي.
قيمة تاريخية عريقة
يعود تاريخ بناء جامع النوري إلى عام 1172م، حيث شُيّد في الساحل الغربي للموصل على يد نور الدين زنكي. ويُعد ثاني أقدم مسجد في المدينة بعد الجامع الأموي، وقد شهد عمليات ترميم عديدة، آخرها عام 1944م.
في يونيو/حزيران 2014، استخدم تنظيم "داعش" المسجد منصة لإعلان خلافته المزعومة، ليصبح رمزاً لسطوته على المدينة. وبعد ثلاث سنوات من حكمه للموصل، لجأ إلى تفجيره بالكامل في 21 يونيو/حزيران 2017، تزامناً مع تقدم القوات العراقية لاستعادة السيطرة عليه.
مبادرة "إحياء روح الموصل"
مع انتهاء الحرب على التنظيم الإرهابي وبدء العراق جهود إعادة الإعمار في مختلف القطاعات، كانت الإمارات العربية المتحدة من بين أوائل الدول الداعمة لهذه المساعي، لا سيما في المجالين التراثي والثقافي.
وفي هذا السياق، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" مبادرة "إحياء روح الموصل" في شباط/فبراير 2018، بهدف إنعاش المدينة العريقة عبر إعادة إعمار معالمها الثقافية والتراثية وتعزيز دور سكانها في عملية النهوض مجددًا من خلال الثقافة والتعليم.
وسارعت الإمارات للانضمام إلى هذه الجهود، إذ وقعت في 22 نيسان/أبريل 2018 مذكرة تفاهم مع العراق واليونسكو لإطلاق مشروع إعادة بناء مسجد النوري الكبير ومئذنته الحدباء في الموصل، بميزانية بلغت 50 مليونًا و400 ألف دولار أمريكي.
وفي كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، تم وضع حجر الأساس لبدء أعمال الترميم، مع التزام إماراتي بتمويل المشروع وإعادة المسجد إلى هيئته الأصلية بتصميمه المميز ومنارته الشهيرة.
وجسد هذا المشروع دعم الإمارات لمبادرة اليونسكو، ليعكس رؤية تهدف إلى التصدي لمحاولات طمس المعالم التاريخية ونشر الفكر المتطرف، عبر ترميم الإرث الثقافي وإعادته إلى الحياة.
كما أكدت الإمارات أن إعادة بناء المعالم التاريخية العراقية تمثل خطوة نحو مستقبل أكثر استقرارًا، حيث تعزز قيم التعددية والاعتدال، وتوفر فرصًا اقتصادية جديدة، مع فتح آفاق أوسع للسياحة الثقافية والتنمية المستدامة، مما يسهم في نهضة العراق وازدهاره.
إرث ثقافي مشترك
لم يقتصر الدور الإماراتي على إعادة إعمار جامع النوري، بل شمل أيضاً ترميم كنيستي الطاهرة والساعة في الموصل، في خطوة تؤكد على أهمية التعددية الثقافية والدينية، ومواجهة الفكر المتطرف الذي استهدف هذه المعالم.
وتواصل الإمارات جهودها للحفاظ على التراث الإنساني، عبر شراكاتها مع اليونسكو ومؤسسة "ألِف" والصندوق الأفريقي للتراث العالمي، ما يعكس التزامها بحماية الإرث الثقافي العالمي، وضمان استدامته للأجيال القادمة.
إعادة المنارة إلى مجدها القديم
خلال حفل أقيم في 5 فبراير الجاري، أعلنت أودري أزولاي، المديرة العامة لليونسكو، عن اكتمال إعادة بناء المئذنة الحدباء، مؤكدة أن هذا الإنجاز يمثل استعادة لهوية الموصل وتاريخها العريق.
وأشارت إلى أن المشروع جمع 115 مليون دولار من 15 جهة مانحة، من بينها الاتحاد الأوروبي.
يعود بناء جامع النوري إلى عامي 1172-1173م على يد نور الدين الزنكي، وكان يضم مدرسة إسلامية، بينما بلغ ارتفاع المئذنة الحدباء بعد إعادة بنائها 51 مترًا، بعد تركيب سبع حلقات هندسية معقدة، مع الحفاظ على ميلانها الفريد، ما يعيد إليها طابعها الأصلي.
المهندس عمر طاقة، مدير مشروع إعادة الإعمار في اليونسكو، أكد أن العمل على المنارة انتهى تمامًا، في حين بلغت نسبة إنجاز الجامع 80%، ومن المقرر أن تكتمل أعمال الترميم بحلول العام المقبل. وأضاف أن المشروع يلتزم بأعلى المعايير الدولية للحفاظ على أصالة الموقع وضمان استمراريته للأجيال القادمة.
إعادة استخدام 40 ألف قطعة حجرية
أوضح عبدالله العبيدي، ممثل مفتشية آثار نينوى، أن عملية الترميم استعانت بأكثر من 40 ألف قطعة حجرية استُخرجت من أنقاض المئذنة الأصلية، مما ساعد في استعادة هويتها الأصلية.
عودة المئذنة الحدباء إلى موقعها الطبيعي أثارت مشاعر الفخر والفرح بين سكان الموصل والمؤرخين، إذ اعتُبرت رمزًا لتاريخ المدينة العريق. أيوب ذنون، سفير اليونسكو لمبادرة "روح الموصل"، وصف إعادة الإعمار بأنها "لحظة تاريخية غمرت الموصل والعراق بفرحة غامرة"، مشيرًا إلى أن المئذنة ليست مجرد معلم أثري، بل جزء من روح المدينة.
تعد منارة الحدباء واحدة من أقدم المعالم الإسلامية في العراق، حيث يتجاوز عمرها 850 عامًا. ومع اكتمال إعادة بنائها، تكون الموصل قد استعادت جزءًا أساسيًا من هويتها الحضارية، في خطوة تؤكد قدرة المدينة على النهوض مجددًا من بين الركام والدمار الذي خلفته سنوات الصراع.