أورهان باموق.. حارس حكايات إسطنبول
الكاتب التركي أورهان باموق يحل ضيفا على معرض الشارقة الدولي للكتاب، في تواصل للاهتمام العالمي بالكاتب الحائز على جائزة نوبل عام 2006
لن تجد أبطاله يتخذون من مدينة أخرى مسرحا لهم سوى إسطنبول، العاصمة التي غمره الشغف بها إلى حد لا يمكن تفاديه في أعماله، فتتبُع أعمال الأديب التركي العالمي أورهان باموق يشي بهذا الغرام بمدينته القديمة، التي يهيم بها بنبرة سردية تجمع بين النوستالجيا والشجون الراثية لتحولاتها الاجتماعية والسياسية.
ويحل أورهان باموق ضيفا على الدورة الـ38 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، في تواصل للاهتمام العالمي بالكاتب الحائز على جائزة نوبل عام 2006، والتي مُنحت له آنذاك "لاكتشافه رموزاً روحية جديدة للصراع والتشابك بين الثقافات، في معرض بحثه عن الروح الحزينة للمدينة التي هي مسقط رأسه"، بحسب لجنة نوبل.
وتوّجت حيثيات "نوبل" التلقي الواسع لمشروع باموق النابض بروح مدينته الحزينة، فمنذ أول أعماله "جودت بك وأبناؤه"، الصادرة عام 1982، حتى آخر أعماله "غرابة في عقلي"، الصادرة عام 2014، تتماسك الحكاية التركية كبطلة رئيسية، وبين تلك الروايتين عناوين دامغة تُرجمت للعديد من لغات العالم، منها رواية "ثلج"، و"متحف البراءة"، و"اسمي أحمر" وغيرها.
ويتسلح باموق بخيال خصب، وجهد بحثي حثيث في نسج مشروعه، مُتخذا مواقف نقدية تخص ملفات شائكة في الدولة التركية كموقفه من رئيسها رجب طيب أردوغان المقوّض للحريات، وموقفه من الأتاتوركية، والعلاقة بين تركيا والغرب، والإرث العثماني، وأصولية تركيا وعلمانيتها، وهي أفكار مُتجذرة منذ بداياته مع "جودت بك وأبناؤه" التي تحكي عن عائلة من 3 أجيال تركية منذ عام 1905 حتى عام 1970.
ووضع باموق نفسه في مرمى نيران الدولة التركية منذ سنوات، بداية من مواقفه الصريحة في روايته، وأججها تصريحه الصحفي الشهير الذي أثار حفيظة الدولة التركية وعرضه للمحاكمة، وقال فيه: "مليون أرمني و30 ألف كردي قتلوا في بلادي ولا أحد يتجاسر على الاعتراف بذلك"، وتعددت مع هذا التصريح فصول مواجهاته مع الدولة، وتمت ملاحقته قضائيا في قضية أخرى بسبب "إهانة الهوية التركية"، وشخصية مصطفى كمال أتاتورك.
وبدأت أولى جلسات محاكمة الأديب العالمي في عام 2005، ما أثار عاصفة من التنديد في أوروبا، مصحوبة بتضامن واسع معه من مجموعة كبيرة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين والسياسيين بالتعاون مع اتحاد الكتاب الدولي (PEN) اعتراضا على محاكمته، وزادت الضغوط الدولية مصحوبة بإعلان الاتحاد الأوروبي الشروع في مراجعة منظومة العدل التركية، وأمام هذا التكتل قررت المحكمة إسقاط الدعوى ضد باموق في 22 يناير/كانون الثاني 2006.
وتفاقم الأمر بعد عام 2007 بعد أن تلقى باموق تهديدات بالقتل، بعد مقتل أحد الصحفيين الأتراك من أصل أرمني لكتاباته التي تندد بمذابح الأرمن، وأخبرته السلطات الأمنية أن هذه التهديدات جدية، ما دفعه إلى السفر نجاة بعمره إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم يكف باموق عن نقد سياسات الدولة التركية المُقوضة للحريات رغم كل تلك الملاحقات، فأعلن دعمه عام 2016 للكاتب التركي مراد بلج الذى يمثل أمام القضاء بتهمة إهانة رجب طيب أردوغان، بسبب مقال نشره بلج لمّح فيه إلى أن الرئيس التركي هو الذى أشعل النزاع مع الأكراد لتحقيق مكاسب انتخابية، وصرح باموق وقتها خلال حضوره لمحاكمة ملج بقوله: "سئمت من التوجه للمحاكم إما للدفاع عن أصدقاء وإما لملاحقة أموري القضائية".
ورغم الشهرة التي حظي بها أدب باموق عالميا، فإن الكاتب التركي يتحدث كثيرا عن التواضع كاختيار دائم، ونهج يُساهم على مواصلة المشروع، فقال في حديث سابق له لجريدة "لوموند" الفرنسية: "يجب أن يكتب الروائي، ويجب أن يكون متواضعاً، في حال ظنّ الروائي أنه قادر على تغيير بلد فسيشعر بالإحباط ولن يقدر على كتابة روايات جميلة".
وبجانب تقصيه المستمر في الوضع السياسي، والتاريخ المعاصر لتركيا، فإن السيرة الذاتية لباموق، الذي ولد في عام 1952، هي واحدة من الروافد الرئيسية لمشروعه الأدبي، فغالبا ما تجد شذرات من سيرته الذاتية مُتفرقة في أعماله، خاصة أن تكوينه الثري عبر نشأته في أسرة مثقفة، وغرامه بالرسم، ودراسته للعمارة والصحافة، ساهم في صياغة فنية مُغايرة لعلاقته بمدينته والكتابة عنها.
وبالإضافة إلى هالات تأثير سيرته على أعماله، فإن الكاتب التركي خصص لسيرته الذاتية كتابا مستقلا، أطلق عليه أيضا اسم "إسطنبول-الذكريات والمدينة" الذي يربط فيه بين حياته وتاريخ أسرته، يُضفر به باموق تاريخه الشخصي بانطباعاته عن مدينة اسطنبول وتراثها، مُرفقا بصور من طفولته وصباه، ورغم ما به من صبغة ذاتية إلا أن التاريخ لدى باموق لا ينفصل عن ذاته، فيمر الكتاب، الصادر عام 2005، على رؤيته للتاريخ العثماني، وأزمة الهوية التركية بين منظومات متناقضة ما بين شرق وغرب، وأصالة وحداثة، فالمدينة العتيقة بسحرها وتاريخها وتشتتها، هي دائما مأزق باموق الشخصي.
aXA6IDMuMTYuNjkuMjQzIA== جزيرة ام اند امز