"العربية" في بوركينا فاسو.. مزيج تاريخي سياسي لمناهضة فرنسا
كان لافتا في الصورة التي تم تداولها لمظاهرات خرج فيها الآلاف في العاصمة واجادوجو، السبت، من أجل "سيادة" بوركينا فاسو، وجود لافتات حملها متظاهرون مكتوبة باللغة العربية فهل يتحدث سكان واغادوغو العربية؟
وأظهرت صور حملها متظاهرون لدعم الحكومة العسكرية الحاكمة، التي وصلت إلى السلطة عبر انقلاب قاده الجنرال إبراهيم تراوري، لافتات كتب عليها باللغة العربية "نحن مع رئيسنا "إبراهيم تراوري.. لا للاستعمار".
ويقول خبراء إن تظاهر الآلاف في واغادوغو يمثل أحدث تعبير عن تنامي المشاعر المناهضة لفرنسا في الدولة الواقعة في غرب أفريقيا التي تعاني بسبب حركات التمرد، رغم تأكيد خروج القوات الفرنسية من البلاد بنهاية يناير/كانون الثاني الجاري.
ومع تزايد المشاعر المعادية لفرنسا في العديد من مستعمراتها السابقة في غرب أفريقيا، تضطر باريس إلى التراجع أكثر من أي وقت مضى عن المنطقة غير المستقرة بشكل متزايد، ولكن ماذا عن قصة اللغة العربية في بوركينا فاسو.
اللغة العربية في بوركينا فاسو
وفقا لدراسة أعدها مجموعة من الباحثين والأكاديميين في بوركينا فاسو فإن العربيّة أوّل لغة مكتوبة عرفها تاريخ بوركينا فاسو.
ويعود دخول اللغة العربية إلى هذه المنطقة من السودان الغربي إلى حدود القرن التاسع الهجري الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي.
واقترن، حسب الدراسة، هذا الحدث التاريخي بانتشار الإسلام الذي ارتبط بدوره بحركة التّجارة بين جنوب الصحراء الكبرى وشمالها.
وتثبت الوثائق التّاريخيّة أن ّ العربيّة لم تكن في المنطقة مجرد آلة لنشر نصوص الإسلام التأسيسيّة، إنّما كانت أيضا محل عناية المسلمين في زوايا الصوفية وكتاتيبهم؛ لاكتساب ما تقتضيه قراءتها من مهارة قبل أن تستقيم كآلة لتحصيل قيم الإسلام وتعاليمه.
وباستقراء عدد من المؤلّفات كانت تقوم مقام المقرّرات التربويّة، كانت العربية، فضلا عن هذا، أداة الكتابة الديوانية لدى الملوك التّقليديّين.
ظلّت اللّغة العربية تحتل ّ هذه المكانة المرموقة لدى المسلمين، وأعيان الممالك والقبائل حتّى استهدف البلاد الاستعمار الفرنسي، وسعى إلى طمس مضمون العربية الدّيني؛ استدراجا إلى نسف معالمها وتعطيل وظائفها الحضاريّة، بغية إحلال الفرنسيّة ومضمونها الحضاري الغربي بديلا عنها.
هل أصبحت فرنسا منبوذة في أفريقيا؟
بعد أن أجبرت الحكومة العسكرية الحاكمة في مالي القوات الفرنسية على الانسحاب العام الماضي، حذا ضباط الجيش الذين يحكمون بوركينا فاسو المجاورة حذوهم مؤخرا، وطلبوا من باريس سحب ما تبقى من قواتها الخاصة في الشهر المقبل.
وفي عهد الرئيس إيمانويل ماكرون ، بدأت فرنسا تسحب بالفعل قواتها من جميع أنحاء منطقة الساحل.
وقال جان هيرفيه جيزيكيل، المتخصص في شؤون المنطقة من (مجموعة الأزمات الدولية): "فرنسا تدفع ثمن رغبتها في الحفاظ على وجود سياسي وعسكري مهم للغاية في مناطقها السابقة".
وكشف المستشار السياسي الأمريكي، انتوني جيه.توكارز، في تقرير نشرته مجلة "ناشونال انتريست" الأمريكية، أن الحكومة العسكرية الحالية في بوركينا فاسو طلبت رسميا من فرنسا مؤخرا سحب ما تبقى من قواتها الخاصة ويبلغ 400 جندي من البلاد.
لكن توكارز يرى أن انسحاب القوات الفرنسية خلال شهر حسب طلب حكومة بوركينا فاسو، قد يؤدي إلى تشجيع الجماعات المتشددة العاملة في أفريقيا على مضاعفة جهودها ضد الحكومات في منطقتي المغرب والساحل.
ويقول توكارز إنه "ليس من قبيل المبالغة القول إن مصير كل أفريقيا قد يكون على المحك".
بوركينا فاسو والعالم العربي
حسب الدراسة البحث التوثيقية التي حملت عنوان "اللغة العربية في بوركينا فاسو"، لم تكن علاقة بوركينا فاسو السياسية وطيدة مع الدول العربية قبل استقلالها في أغسطس/آب 1965، فقد ظلّت إلى هذا التّاريخ علاقة غير مباشرة أساسها التّواصل بين الأفراد والمجموعات المحدودة في إطار المبادلات التّجاريّة بين بلاد السودان وبلاد المغرب والمشرق العربيّين.
وبرز في مجال الحركة التّجارية فئة اجتماعيّة مسلمة عُرفت بأسماء تعدّدت بحسب اختلاف اللّغات والثّقافات في غرب أفريقيا؛ وحمل هؤلاء التّجار لواء الدعوة الإسلاميّة بعد أن تأثّروا بشركائهم المسلمين من العرب والبربر وحصّلوا من العلوم العربية والإسلامية، فنهضوا بدور بارز في نشرالثّقافة العربيّة الإسلاميّة في بوركينا فاسو.
دخل هؤلاء التجار البلاد من جهة الشّمال، فتوغّلوا من إقليم ياتنغا نحو محافظتي ياكو وكايا حتّى وصلوا إلى واغادوغو، عاصمة البلاد، ومنها انتشروا نحو الشرق والجنوب.
وعلى الرّ غم ممّا شهدته خمسينيّات القرن العشرين من درجة عالية من التنسيق والتضامن بين العالم العربي وبلدان أفريقيا في معالجة العديد من القضايا المصيريّة، فإن أوّل رئيس لبوركينا فاسو المستقل موريس ياميوغو (1965 – 1966) كأوّل رئيس من أفريقيا السوداء الفرانكفونية، قام بزيارة رسميّة إلى إسرائيل، قادت حينها لحالة غضب عربي وانحسار علاقات بوركينا فاسو مع غالبية العالم العربي.
سادت حينها رؤية سلبية للّغة العربية لم تنحصر فقط في سياسة الرئيس ياميوغو بلغ بلغت حد "مضايقة العربيّة والاستخفاف بها وطبع على عقول الناس الاعتقاد بأن ّ التّعليم الفرنسي هو الطّريق الوحيد إلى الثّقافة الحديثة والتفنّن في العيش، والتوسّع في المعرفة والعلم وأسرار الحياة، والمستوى الاقتصادي الرفيع.
ويمكن القول إن عهد موريس ياميوغو كان امتدادا للسياسة الاستعماريّة الفرنسيّة التي اتسمت باحتقار كل ما سوى الفرنسيّة والفرانكفونيّين.
كل هذا تغير عقب انفتاح الحكومة على العالم العربي في عهد لاميزانا فكانت نهاية حكم الرّ ئيس موريس على إثر انتفاضة نقابيّة شعبيّة، اندلعت في الثّالث من شهر يناير/كانون الثاني عام 1966م، بمثابة منعرج في علاقات دولة بوركينا فاسو مع العالم العربي الإسلامي.
تقلّد الحكم من بعد ياميوغو الجنرال الحاج أبو بكر سانغولي لاميزانا الذي قرر الانتصار للقضيّة الفلسطينية، في خطاب ألقاه، مالك زورومي، وزيره المكلّف بالشّؤون الخارجيّة خلال اجتماع انعقد في مقر ّ منظّمة الأمم المتحدّ ة عام 1967م.
كان زورومي مسلما وعضوا في الجمعيّة الإسلاميّة، ولذلك قام بدور بارز في فتح فرص عديدة من التّعاون مع العالم العربي، حيث أبرمت اتّفاقيات مع بعض البلدان العربية، وخاصة الجزائر وليبيا ومصر، وكان فتح العلاقات الدبلوماسيّة مع الجزائر في عام 1966م، ثم ّ كان فتحها مع كل من ليبيا ومصر في عام 1971م.
وبادرت حكومة بوركينا فاسو لإنشاء علاقات دبلوماسية مع المملكة العربيّة السّعوديّة عام 1967، ففتحت في الرّ ياض سفارة للبلاد، وفي جدّة قنصليّة عامّة.
وكان عهد الجنرال الحاج أبي بكر لاميزانا، على الصّعيد الدّ ولي، فترة تقارب بين بلدان أفريقيا والعالم العربي، وانعتاق بوركينا فاسو من الانحياز المطلق للقوى الغربيّة، وتوخّي الواقعيّة والاعتدال في التّعاون مع مختلف الكيانات الثّقافيّة والسياسية والاقتصاديّة في العالم.