القصور اليافعية.. تحف معمارية تروي قصة حضارة اليمن
تبدو الحياة وسط القصور الحجرية المتناثرة على قمم جبال يافع اليمنية أشبه بالدخول إلى إحدى الممالك القديمة التي ما تزال تحتفظ بحصونها.
حافظ اليافعيون عبر قرون من الزمان على إرثهم الحضاري وفن العمارة في مناطقهم الجبلية حيث تتسامق البنايات الحجرية على الجبال لتشكل لوحة فاتنة من الجمال وصفتها المهندسة المتخصصة بالعمارة اللإسلامية سلمى الدملوجي بـ "ناطحات السحاب الحجرية الفريدة في العالم".
ويقول المؤرخ اليافعي الدكتور علي صالح الخلاقي في كتابه "فنون العمارة الحجرية في يافع"، إن العمارة اليافعية الفريدة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ ولها امتدادها المرتبط بالحضارة الحِمْيَرية المزدهرة، خاصة إذا ما عرفنا أن يافع، هي قلب المنطقة المعروفة تاريخيا بـ(سرو حِمْيَر)، وهي منطقة جبلية توجد فيها مختلف أنواع الأحجار الصالحة للبناء وللنحت.
وما يُدهش الزائر ليافع فرادة العمارة وروعة أسلوب البناء وارتفاع البنايات الحجرية الضخمة بما فيها من زخارف ونقوش وطراز معماري خاص لا مثيل له، وهذه الثروة المعمارية هي محصلة تراكمية لحضارة حِمْيَر العريقة التي ما زالت شواهدها وتعود إلى القرن الـ2 الميلادي، حسب ما دونه المؤرخ الخلاقي في كتابه.
ويؤكد الخلاقي أن اليافعيين لهم نمطهم المعماري المميز والفريد في الجزيرة العربية والعالم أجمع وتتميز يافع بالحياة الحضرية المستقرة حيث تبنى البيوت أو الحصون المؤلفة من أدوار حجرية عدة وتزخرف بالنقوش الداخلية والخارجية كما أن لليافعيين أعرافهم التي تمثل قوانين ملزمة، وعاداتهم وتقاليدهم تحدد نمط سلوكهم وحياتهم وعلاقاتهم.
طراز فني فريد
ويتميز البناء في يافع اليمنية الواقعة جنوب اليمن بطراز فني فريد ومختلف عن أنماط البناء في مدن يمنية أخرى.
وتمتد المباني ذات الزخارف الفنية البديعة على مناطق جبلية شاهقة، ويمنح الارتفاع الكبير لتلك المنازل فرادة جمالية كما لو أنها ناطحات سحاب حجرية معلقة في الفضاء.
وتتألف تلك المباني التي تأخذ طابع البناء البرجي المستند إلى أساسات قوية من أحجار الجرانيت الضخمة، من طوابق تصل إلى 7 طوابق بطول 4 أمتار لكل طابق واحد، فيما يتراوح ارتفاع المباني ما بين 12 مترا إلى 24 مترا.
ويفصل حزام حجري أبيض اللون بين كل طابق وآخر ويمنح ذلك الحزام المباني تميزا جماليا آخر، فيما تصطف على واجهات المنازل الأحجار المصقولة البديعة ذات الأوان الرمادية المائلة إلى الزرقة، ما يضيف الأبهة إلى تلك المباني المتشابهة بطرازها المعماري الفريد والمتناسق إلى حد كبير.
وفي المباني الحديثة أضيفت إلى واجهات بعضها عقود حجرية ذات ألوان بيضاء، فيما تعد النوافذ المتوسطة الحجم جزءا مهما من نمط البناء اليافعي الذي يعود إلى عقود زمنية مضت.
ويتميز البناء اليافعي بالسقوف الحجرية التي ليس لها مثيل، إذ يتم صقل ألواح حجرية ويتم فرشها فوق أخشاب السطح المقطوعة من أشجار السدر، بحيث تلاصق بعضها بعضا ما يجعلها أكثر قوة وتماسكا.
وتنتصب 4 زوايا بامتداد متر لكلا منها على سطح كل مبنى وتسمى بـ"التشاريف"، وهي زوائد توضع في رأس المبنى على سبيل التشريف، لكن أهالي يافع يعتقدون أنها تحمي المبنى من الصواعق الرعدية.
في الداخل يتكون الطابق الأول الذي كان يخصص قديما كسكن للحيوانات من غرفتين يطلق عليهما اسم مفرش وعليه ومغسل وسلم، وهو الدرج الذي ينتقل فيه سكان المنزل إلى الأدوار العليا.
لكن المباني الكبيرة يتكون كل طابق فيها من أربع غرف بطول 4 أمتار وعرض ثلاثة أمتار للغرفة الواحدة، ويتم تحديد عدد الغرف واتساع حجم المبنى حسب قدرة مالك المنزل على تحمل تكاليف البناء.
إرث الأجداد
توارث أبناء يافع الواقعة في محافظة لحج جنوب اليمن، هذا الطراز الفريد في البناء عن أجدادهم القدماء حيث ازدهر هذا النمط من البناء في عهد الدولة الحميرية وهي إحدى الحضارات اليمنية القديمة ليتوارثه الأبناء من بعدهم جيلا بعد جيل.
ويشير أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة في جامعة عدن الدكتور قاسم المحبشي في مقال بحثي بعنوان أنثروبولوجيا ناطحات السحاب الحجرية إلى أن "البيت اليافعي يعتبر أشبه بقلعة حرب لا منزل للسكن".
ويرتبط نمط الفني الهندسي بخصائص المكان ومعطياته الجغرافية الطبيعية، ففي بيئة جبلية وقليلة التربة وضنينة الماء وباردة المناخ، ليس من الغريب أن ينشأ أسلوب من أعمال العمارة من جنس الطبيعة ذاتها.
ويشبه المحبشي البيت اليافعي بالجبل اليافعي سواء من حيث الرسوخ في الأرض ومن حيث الارتفاع في السماء أو من حيث مواد البناء التي تعد قدا من صلب الصخور أو الخلب من خالص تراب الأرض النقي والماء والخشب من أشجار السرو أو من حيث جودة البناء ومتانته الفائقة.
ويمتلك فن العمارة اليافعية حسب المحبشي سيرة طقوسية تبدأ باختيار المكان "العرصة" وهي الأرضية التي سيتم عليها البناء والتي يحددها خبير متخصص وهو شخص كبير في السن يعرف النجوم والطوالع، حيث يقوم بفحص العرصة فحصاً دقيقاً ليحدد بعد ذلك إن كانت صالحة للبناء أم لا.
وهناك شريحة اجتماعية متخصصة بمهنة البناء في يافع منذ القدم وحتى الآن، هذه الفئة تدعى (أهل بن صلاح) بحيث ارتبطت هذه المهنة باسمهم لأنهم أفضل من يجيد هذه المهنة المتوارثة عن أجدادهم، ورغم أن بعض الأشخاص الذين تعلموا مهنة البناء على أيدي (الصلاحيين) وأجادوها إلا أن (الصلاحي) هو علامة الجودة الأكثر ضماناً، حسب المحبشي.
من جانبه، يقول الدكتور الخلاقي إن "آل بن صلاح يمثلون ما يشبه أكاديمية البناء التطبيقية التي تعتمد على الممارسة العملية وذلك في سياق حديثه عن معلم البناء الشهير حسين عوض محمد بن حاتم الصلاحي الذي يعد مرجعية هندسية في البناء القصور اليافعية".
وتتلمذ حسين عوض على يد معلمه الأول محسن علي بن حاتم، وأخذ عنه قوانين ومقاييس وأبعاد وزوايا وفنون البناء المعقد بالحجر وفقاً للنمط اليافعي الأصيل- الذي ظل حكراً على آل بن صلاح لقرون يتناقلونه من خلال إجازة الكبار للأجيال الجديدة وفق شروط وقوانيين دقيقة، وفقا للمؤرخين اليمنيين.